حوار مع شرف الدين شكري
كامل الشيرازي
· س1 – دعوتم مؤخرا إلى تأسيس ما سميتموها « الطليعة الجزائرية الحرة »، وقلتم أنّ مشروعكم من شأنه معالجة الاحتباس الراهن في الجزائر، وتأسيس أنتلجانسيا جزائرية حرة، هل لكم أن تبرزوا لنا ملامح هذا التصور؟
ج2- برزت فكرة تأسيس » الطليعة الجزائرية الحرة » بعيد كوميديا المصادقة الشنيعة على التعديل الجزئي للدستور، والتي تمَّت بفضل تورُّط أعضاء البرلمان الجزائري في قضية رشوة علنية حدثت قبل وقت قصير من عملية التصويت، ولم يحرِّك المجتمع المدني ولا القضائي ساكنا لأجل الوقوف ضدَّها. طبعا، كانت تلك التعديلات تصبُّ في خانة جهة معينة، همُّها الأوحد هو خدمة مصالحها على حساب معاناة الشعب البائس الذي لا يقوى على سدّ رمق أفواه أبنائه ولا على تلبية متطلبات الحياة اليومية التي تقف الدولة عاجزة عنوة أمامها…تلك الدولة التي لم تتوان في توفير راتب لأعضاء ذلك البرلمان يفوق بثلاثين مرة راتب المواطن الجزائري!
إننا نعيش وسط مجتمع ،لا زالت بعد تباشير خروجه من حمّامات الدّماء لم تترسخ بما يكفي في العقول، كي نقنع إلى فكرة » الأمن » التي يحاول النظام القائم اليوم إيهام الناس بها، مستأثرا لنفسه بـ « كذبة » خلقها بعد غيابها » شبه التام » في العشرية السّوداء التي أكلت حرث الأمل في قلوبنا كلية. ولأننا نعيش وسط مجتمع كهذا، دفَعَ الكثيرَ من أجل الخروج -ولو جزئيا- عن ذلك الكابوس الذي لم يغادر طنينه دقات أبواب صبرنا أبدا حتى السّاعة، فإنني أجد بأنه من الدناءة الأخلاقية، احتكار هذا المُنجز الشعبي من قبل النظام القائم اليوم، واستغلاله لتمرير رغباته غير المنتهية التي تكرَّست بشكل فاضح بعد تعديل الدستور لصالحه.
« … التاريخ يعيدُ نفسه.. » ، بعد أن أعدمنا من قاموس الوعي الجزائري – والعربي عموما- فكرة » التاريخ يستعيدُ نفسه « . فلا زلنا بعدُ نعيش على أناشيد منجزات الأنظمة الجزائرية التي تكرِّسُ ذاتها،على اختلافها..!لا زلنا نعيد وراءها تلاوة كتاب الطّاعة العمياء، مؤكدين للمرّة التي لا يمكن تعدادها منذ أن نال وطننا استقلاله بأننا شعبٌ وفيٌّ جدًّا لكل من يريد أن يلقي بظلاله عليه ويستعبدُه، ويحتكر تفاصيل رواية التاريخ لمصالحه.
كل الأنظمة التي حكمَتْنا استقبلناها بالتهليل والتّرحاب الذي يجعل من أدنى حاكمٍ، أميرا متعاليا، في يده المقصّ والممحاة. مقصٌ يقرأ به أحداث تاريخ تأسيس الدولة كيفما شاءت رغبة الخطاب المصلحاتي الذي يحمله، وممحاة عجيبة تأتي على كتاب الذاكرة، فتأكل كلام الحقيقة، وتزين سُوَر الباطل ،وتستغبي الثورة بأحداثها العتيقة كي تجعل منا » فاقدي ذاكرة » بامتياز !..
ربما لأجل هذا، كانت المادة المعدَّلة في الدستور حول استئثار « التاريخ » بجهة معينة تحدِّدُها الدولة بدل جهات البحث والتحرِّي الأخرى، العلمية والفردية الخاصة، من أخطر الموادّ التي تمّ تمريرها أمام برلمان المرتشين دون أن يكون في مقدورهم التساؤل عن امتدادات تلك الفكرة الخطيرة التي أحالت المؤرخين النقديين إلى التقاعد المسبق. ولأنها كانت- أي تلك الفكرة – تكملة لاستغلال جهل الشعب الجزائري البائس الذي عانى الأمرّين كما أشرت إلى ذلك قديما وحديثا مع جلّ الأنظمة الديكتاتورية وغير الشرعية التي حكمته، فقد مرَّت في عرس احتفائي كبير في برلمان الأفراح والسقوط الحرّ والدناءة التاريخية التي ستحاسبنا عليها أجيال المُستقبل القريب جدا، وتحاسب معها صمتنا وخنوعنا لأننا لم نحسن الوقوف بشكل فاصل وصارم أمام مصالح أنية ومؤقتة لجهات تتلاعب بالمسؤولية الكُبرى التي اعتلت مناصبها لأجل تمثيلها عبر الشعب، وليس لأجل استغلال جهله ورغبته – البريئة – في رؤية وطن عادل ونزيه. هذا الوطن الذي تمثِّلُ فيه الذئاب المارقة حتى السّاعة، العدالة والنزاهة وياللأسف !.
ولأنني رأيت بأن الخطاب الحرّ، اليبيرالي، لم يأخذ أبدا الطليعة في تسطير آفاق المشروع الاجتماعي الجزائري الذي تهيمن عليه القوى الراديكالية، من متأسلمة ، إلى شبه ديمقراطية، إلى مصلحاتية خالصة، إلى شبه بشرية لا تعي من الحياة إلاّ أنها تتنفَّس كباقي الكائنات الزّاحفة، فقد آثرت أن أسعى أمام التاريخ الماكر والداهية – على حسب تعبير أنجلز- إلى وضع أسس تنشئة اجتماعية جديدة لهذا المجتمع الذي فقدَ البوصلة …أسس، نشارك فيها جميعا – بما في ذلك تلك الكائنات الزاحفة !- ،ولا نُقصي فيها إلاَّ تلك الأصوات الغبية التي تحتكر التاريخ والأفعال البشرية المطلقة وتلك المقيَّدة، والذاكرة – العفويّ منها والعاقل- لمصلحتها،ولا تسمح للمخيلة بفسحة المغامرة والانبلاج من رغبة الإبداع على جميع مستويات الخطاب التي تشكِّلُ حياة الإنسان الحديث.
المشروع التأسيسي الرسمي لم يبدأ بعد ،ولكنه مفتوح على دعم الجهات المعنية التي يهمُّها فعلا العمل على استنهاض هذا الشعب من غفوته. الكُــرَة في ملعب الزّمن.
· س2) كمثقف، ما مقاربتكم للمشهد الثقافي الحالي في الجزائر؟
ج2) لا أذكر أنني عايشت حركة على المستوى الثقافي أنشط من الحركة التي تعيشها الجزائر منذ اعتلت الوزيرة « خليدة تومي » مقاليد وزارة الثقافة. ولكنني أودّ أن أنوِّه إلى العوامل البسيطة جدا التي يسهُل استنتاجها لمعرفة مولِّدات كل هذه الطاقة التي تبدو في حُلَّتها الجديدة نشيطة بعد الخواء الكبير الذي عاشته السّاحة لأكثر ممّا ينيف عن العقدين من الزمن، من اجل التفرقة فيما بعد، بين الحركة الثقافية كفعل، والحركة كمضمون.
فالحركة الثقافية كفعل، نشأت بفضل الصُّدفة غير المتوقَّعة التي حدثت إثر ارتفاع أسعار المحروقات،لا غير !. إذ لم يكن هناك أي مشروع ثقافي مميَّز في الولاية الأولى للرئيس بوتفليقة، ولا في الولاية الثانية. كانت هناك مجموعة من البرامج الاحتفائية التي تسطَّرُ على مستوى الولايات، أو خارج الوطن، وتتمُّ دوما تحت شعار يرعاه الرئيس. وكانت ولا تزال، تلك التظاهرات، عرضةً للمحسوبية ولغياب الوازع النقدي الذي من المفروض أن تتسم به كل الطلائع الثقافية. كيف لا! وهي تستمدُّ تفاعلاتها- حركيّتها- من خزينة وزارة تابعة، لا يمكنها أن تنال حظها من العقلانية في ظل الأوضاع الذهنية المتخلِّفة التي تعيشها البلاد والتي يُعدُّ أي مسؤول عنها مسؤولا مباشرا عن تخلُّفها وتقهقر الذهنيات فيها، وبخاصة بعد مرور فترة نقاهة الحكم التي يراجع فيها النظام نفسه، ويباشر أعماله التي انتُخبَ لأجلها، ووضع برنامجه الانتخابي من أجل تعديلها، لإخراج المُجتمع من المعوقات التي تواجهه بفضل ذلك البرنامج.
ولأن مفهوم الحركة في المجتمع الجزائري اليوم، ممَثَّلا خاصة في مسؤوليه الذين يعون جيدا قراءة سورة « الرضوان » تعني في الغالب التغطية المادية للتظاهرات، والاستهلاك التكراري، وتوليد الصفقات المشبوهة مع المموّنين، ولا تعني البتة التخطيط الفني الحكيم، واستنهاض مشروع توعوي، وتأسيس نظام تقييمي صارم للأنشطة، وتسطير برامج إنمائية تنصهر في مشاريع اجتماعية تتماشى ومتطلبات السّاعة، ويسهر عليها ذووا الكفاءات العالية الذين يمتلئ بهم هذا الوطن، ولا يجدون فرصتهم البتة لإثبات كفاءاتهم وسط حوت السلطة الذي يكون في الغالب منعدم المستوى أخلاقيا وعلميا، وتحمل في طياتها الاستشراف العلمي النزيه الذي يَعِـدُ بالمواصلة والتطوُّر، بدل تلك القطيعات غير المبرّرة، وغير المنطقية التي تحدث دوما بين كل حُكمٍ وآخر، وتجعل المجتمع في كل مرّة يقفز كالريشة فوق كُبّات النار، ولا يعي شيئا،لا عن هويته، ولا عن جسده الثقافي إلاّ أنه، يحترق في كل مرة أكثر في وجاق الجهل .
الحركة الثقافية التي تبدو نشيطة إذن في مرحلة تولّي السيدة خليدة تومي الوزارة، هي حركة متماشية فعلا مع تنامي الذهنية المادية (طبعا مفهوم » المادية » هنا يُفهَمُ ضمن مخيال « التظاهر » لا غير !)،والتي ارتقت بشكل مخيف في المجتمع الجزائري منذ عقدين من الزمن …وجعلت النشاط في ظاهره المادي والمرئي، أكثر منه في مضمونه الروحي والتربوي التثاقفي.
كنت قد أشرت في بداية الإجابة عن السؤال بأن هذا التظاهر المادي، نمى ولحسن حظ وزارتنا المصونة في مرحلة البذخ المالية التي نتجت عن ارتفاع أسعار المحروقات وسمح لخزينة الدولة بأن تصاب بالتخمة، ولكنني أريد أن أؤكد أمام هذا النوع من « التنامي أو النموّ الوهمي »، بأن ثقافة الاستهلاك التي تعتمد عليها تلك البرامج الثقافية – السخية جدا مقارنة مع ما تعيشه بعض الدول العربية التي تصنع الحياة الثقافية من دعم مادّي طفيف جداًّ!- باستطاعتها أن تكون أكثر نجاعة وأن تُحقّق أهدافا أعمق في صميم المجتمع وأن تقود بالفعل المبدع إلى غايات أحسن، لو أنه تم تسطير نوع من الورشات التكوينية المتخصصة في دراسة الفعل الثقافي وترقيته، وتأسيس لجان غربلة (مستقلة) تعمل على جرد كل النشاطات الفارطة، واستخلاص الموجب منها عبر تقارير دورية تُرفع إلى أعلى الهيئات في البلاد، لكي تَخرج بنتائج عقلانية واستشرافية، توعّي الفعل الثقافي وترفع من الطاقات المجدّدة له، وتمنح الفرصة للمبدعين كي يثبتوا أنفسهم، ويؤكدوا على كرامة الثقافة التي عليها أن تخرج عن مستنقع الأفكار المُسبقة الذي ضيّع الطاقات الجبّارة في هذا الوطن .
وحتى هذه الساعة، لم نسمع عن أي برنامج من هذا القبيل وياللأسف، رغم نية وزيرة الثقافة التي تبدو حسنة أحيانا، ورغم علمها الصارخ، بأن تاريخ الشعوب لا تصنعه النيات ولا ارتداد الأصوات، بقدر ما تصنعه الأفعال الواعية التي تؤطّرها طاقات البلاد النظيفة.
حتى الآن، القائمون على المشهد الثقافي في الجزائر، يشاركون بشكل مشره في تعظيم الحطب الذي يؤجِّجًُ نار وجاق الجهل، وأعتقد بأن وصف هذا المشهد الآن، ليس من شأنه أن يخرج عن هذا السياق : وجاق كبير من الجهل.
· س3) ما المسافة الفاصلة الآن بين الثقافة والشارع الجزائري، ما الذي يمكن للقصيدة والرواية والمسرحية واللوحة قوله؟ وهل هناك عودة أكيدة للفعل الثقافي أم هناك تبني مطلق ونهائي للمناسباتية والمهرجاناتية؟
ج3) سؤال وجيه جدا، يمكن من خلاله قياس الوزن والمكانة التي تحتلُّها الثقافة لدى/في المجتمع. والثقافة كما هو متداول في الأدبيات المعرفية، هي الممهِّدُ الرئيس لبناء الحضارة . ولا يمكنني أن أكون عدميا في هذا الميدان وأُنكر غياب الثقافة عن أي مجتمع، لأنه وبكل بساطة، لا يمكن أن يكون هناك مجتمعٌ في العالم يخلو من الثقافة على اختلاف درجات تنوُّعها. ولا يمكنني أن أكون متفائلا أو » شوفيني » إلى حدِّ بعيد، بمجرَّد اعترافي بذلك، إذ أنه وبالمقابل من تواجد الثقافة، هناك الكثير من عوامل « الحتّ » و »القضاء » التي تعمَل بشكل جيّد ونشيط ومخطّط له وأحيانا أيضا بشكل عفوي ومُكتسب من أجل القضاء على كل ما من شأنه أن يحافظ على الجسد الثقافي في أي مجتمع، لِمَا تحمله الثقافة أيضا من جهتها، هي الأخرى، من عوامل تعرية ونقد وإلغاء. بإمكاننا اعتبار ذلك، وفق المنطق التفكيكي بمثابة حرب خطابات ونصوص، ووفق المنطق الأركيولوجي، بمثابة حرب تواجد، وبقاء …حرب كينونة وسلطة، وبمنطق البنيوية، بمثابة اختزال ومركزية قرار، وبمنطق النيتشوية، بمثابة » إرادة قوّة .
فالمنطق التفكيكي، تتحارب فيه النصوص والخطابات لأجل إثبات ذاتها: خطاب البناء وخطاب الفوضى. خطاب الاستهلاك وخطاب الإنتاج والإبداع. خطاب التجديد والمفاجأة والمغامرة الفكرية والإصلاح والتحديث، وخطاب الإبقاء والتكرار والتدريس البروتوتيبي وقمع الخروج عن النص. كلها خطابات تشكِّلُ وحدة ثنائية القطبين، وديناميكا جَدلية (وأحيانا أخرى جدالية مثلما يحدث في البلدان المتخلِّفة) .
والمنطق الأركيولوجي، تتحارب فيه النصوص لأجل بسط قوة البحث عن الحقيقة، أو بمفهوم فوكو البحث عن الـ (Véridiction)،وتَسْطير نظام ذهني مرتَّب وفق أبجديات الحداثة والتجديد وبناء المفهوم، ومن ثمَّة المرور إلى بناء سلطة التغيير الفعلي- إذ » لا شيء خارج السلطة »، كما يقول فوكو- ، وليس الوهمي مثلما تذهب إليه العديد من الثقافات الازدواجية التي تعرفها البلدان المتخلِّفة بكثرة.
والمنطق البنيوي، تتحارب فيه النصوص والخطابات بمنطوقاتها (Enoncés) ،لأجل اختزال الحقيقة في تركيب مركزي مسؤول تماما بإنتاجه الحضاري أمام التاريخ، ويتحمَّلُ كل الأعباء التي تترتَّب عن تطبيقاته المتعدِّدة، فتلغيه أو تُبقي عليه، على اعتبار أنه تجربة بشرية خالصة، محكومة بالزمان والمكان. وهذا هو مصير البنوية الذي حاول فوكو ودلوز ودريدا (أبناء البنوية الضالون الذين أسَّسوا لمشنقة البنيوية !) قتله والمرور فوق هفواته التي أعدَمَته.
وأما المنطق النيتشوي، فتتحارب فيه النصوص لأجل هدف أسمى وأرقى ،لا يمكن له أن يوجد إلاّ في ظلّ الخطابات المعرفية والعلمية المؤسّسة وفق منهج سليم ومتكامل وحضاري بقدر الإمكان ، تتمُّ فيه عملية الاختزال بكل حكمة وعلمية والتزام ، كي يتأسس المنطق الأخلاقي – الفلسفي – السليم ، ولا تحيد الحقيقة عن معناها المؤكَّد : الحراك والتجدَّد والتغيير لأجل البقاء. يمكن اعتبار ذلك بمثابة روح دروينية خالصة: « العضو الذي لا يؤدي مهامّه ينقرض »، ويمكن اعتبار المنطق النيتشوي هنا، بمثابة الهدف الأسمى والواقعي الذي انتهت وتنتهي إليه العقلية الغربية الحديثة وتتشارك فيه مع نظرة « بيكون »: » المعرفة قوَّة « . والتي توازيها حتما، عبارة : » إرادة القوَّة « .
من هنا بإمكاننا العودة إلى غاية السؤال المطروح أعلاه ، والإجابة بشكل مقارَن وبسيط عن الفرق الشاسع الموجود بين الثقافة كخطاب مؤسََّس والثقافة كتجربة عفوية، وبين الثقافة كنتاج حضاري والثقافة كتطبيق مُكتَسب نختم به التمثيل المؤسساتي للثقافة والتمثيل الجماهيري لها (وليس الشوارعاتي وياللأسف، والذي أرى بأنسياقه هوالتحاليل الأنثروبولوجية التي تدرس ثقافة وعادات المجتمعات البدائية).
من هنا أيضا بإمكاننا الإجابة عن مكانة الفن كممثل نقدي للمجتمع العربي، والتي أرى بأنها لا تعدو أكثر من كونها تمثيلا نخبويا – غير معترف به طبعا، إذ أنّ النخب غير السياسية وغير الموالية في الدُّول المتخلِّفة لا تشكل مرجعية مصادق عليها – ،أو تمثيلا فرديا، وهنا تنعدم كليةً مكانة الفعل الثقافي، وتعرى من جهة، براءة العطاء الإبداعي بمختلف درجاته لتواجه شراسة غياب التأطير المؤسساتي لهذا الفعل وإلغاء الطاقات المبدِعة وتلك التي بإمكانها أن ترتقي في أعمالها إلى مناصب عليا منتِجةً للأفضل، ومشارِكَةً في عمق حضارة وتحضُّر المُجتمع- …هنا، يمكن لنا أن نعرف ما الذي يمكن للقصيدة أو الرواية أو أي نوع من الممارسة الفنية أن تقوله في راهن الثقافة الجزائرية المناسبتية بامتياز، والشوارعاتية تحديدا، وأن نحكم على البرنامج » الإنعاشي » المتين الذي سطّرته سلطة الخطاب الحاكم المُحاصَر بالمكتسبات العتيدة للعادة الثقافية البالية والعجوز التي تربَّت عليها أجبالٌ كثيرة تراكمت فيها وتكلَّست جلّ الخطابات السياسية التمويهية والقاتلة للطبيعة الإنسانية والرغبة البشرية في الارتقاء إلى عالم أجمل .
وكي لا نكون عدميين أيضا، أو إلغائيِّين، سوف لن ننفي تواجد بعض الكلمات التي رسمت أشياء الكون الجزائري بشكل مهترئ فعلا– بغض النظر عن المُنجزات الفردية المُميَّزة التي عرفناها مثل كل الأمم الأخرى !- ولكنني لن أكون ساذجا في التهليل لألعاب الظلّ الصيني المؤدلجة التي تحاول وزارة ثقافة متخومة (مؤقَّتا!) ترجمتها أمام الجمهور،لأننا لم نشهد حتى الساعة ، برنامجا تربويا ولا علميا آكاديميا صادقا بإمكاننا أن نعتمد عليه لأجل تحليله وتعديله وتوجيهه كي نواجه حقيقتنا كمجتمع عليه أن يجابه رغم أنفه حقيقة العالم الذي تبدو فيه الحركة سريعة بشكل ضوئي مقارنة مع سرعة السلحفاة الضالة التي تطرحها وزارة ثقافتنا البائسة كممارَسة ثقافية.
· س4) ماذا حول الكتب المنجَزَة خلال السنوات الأخيرة في الجزائر، وما مصيرها، وهل استطاعت أن تصنع قارئا جزائريا، بمعنى أصح، كيف تتصورون أفق المسألة الثقافيّة في الجزائر؟
ج4) ربما أنتم عزيزي كامل على إطلاع مقبول بمستوى المقروئية في الجزائر (والوطن العربي عموما)! فبالرغم من كارثية الوضع عربيا ،إلاَّ أن الجزائر تمثِّلُ طفرة مميزة في هذا الميدان. مستوى المقروئية في تدنٍّ فضيع عندنا. وحتى تلك الأرقام المخيفة التي استُخلصت من التجربة الأخيرة التي أجريت على مستوى بعض الولايات الجزائرية، لم تكن- حسب اعتقادي بالدقّة المطلوبة ،لأن الوضع ميدانيا كارثي بأتم معنى الكلمة. أتَعلَم بأن الجزائري في المستوى الثانوي ليس ملزما بقراءة أي كتاب، وبأن نظيره في المدرسة الأمريكية مطالب بمطالعة وتلخيص 25 كتابا سنويا ؟ (ارجع إلى كتاب » رحلتي إلى أمريكا ، للباحث الجزائري فوزي مصمودي).والأمر لا يختلف عن الأستاذ في تلك المرحلة أيضا فهما صنوان في الجهل. وأمّا في الجامعة، فإن الأمر أيضا كارثي ،إذ أنك تستطيع أن تقابل خلال مرحلة الدراسة الآلاف من الطلبة الجامعيين الذين لم يطالعوا كتابا واحدا بشكل كامل طيلة تلك المرحلة ! والأمر أيضا لا يختلف عن الأستاذ الجامعي الذي صار يناضل من أجل الدخل الشهري والزوجة الثانية التي تأتي بها إغراءات الطالبات والرّاتب، أكثر من نضاله المعرفي ومواقفه والتزاماتهم تجاه قضايا عصره.
ربما يختلف الأمر قليلا حين يتم الحديث عن المطالعة التقنية لدى نوع معيّن من القُرّاء . فالإطارات التقنية أكثر اشتغالا على هذا الميدان أكاديميا رغم غياب الوازع الإنساني، وغلاء المراجع العلمية التي لا تسمح للأستاذ الحقّ – وليس ذلك المزيَّف البزنسي الذي يتدثَّر خلف الشهادة الجامعية- بمواصلة البحث، وتدنّي القيمة المادية التي تُغطّي هذه المتابعة، مما جعل الأساتذة الجامعيين يتخلَّون كلية عن تكوين مكتبات شخصية، ويعتمدون على مراجع المكتبات المركزية في معاهدهم، والتي يتم اقتناصها مباشرة من قبل زملائهم، فتغدوا قليلة التداول وعُرضة للاحتكار. وأمّا عن العلوم الإنسانية، فحدّث عن الكارثة بدون حرج : غياب المستوى اللُّغوي المُحترم الذي يحفظ ماء الوجه لدى الإطارات. غياب العنصر البشري المؤهّل. غياب روح التحليل. غياب التربُّص المطلوب بما يتطلَّبُه من مدَّة زمنية مقبولة. تهريب مناصب التكوين واختصارها على عينة بشرية لا تمتلك روح المُبادرة والإبداع (نوع من المافيا العلمية – المالية). قتل الطاقات المُبدعة الباحثة بحجة الاحتكام إلى وهم الدبلوم، بدل المردود. الغياب التام للِجان المتابعة العلمية والغربلة البيداغوجية، وعدم اللجوء إلى إستصدار القرارات الرادعة لذلك النوع من التحايلات، رغم علمنا العتيق بضرورة العمل ميدانيا على دراسة المجتمع الجزائري وتحليل الظواهر الخطيرة التي تعيق عجلة نموّه، والمزاوجة العاجلة بين المنجزات الأكاديمية العديدة التي تنام في رفوف الجامعات ومراكز البحث في انتظار دفقة الحياة، بعد أن عمِلت الأكاديميا والدولة الجزائرية طويلا على تعتيم الرؤية أمام التحاليل الصادقة، وتضييع كل ما من شأنه أن يعيد المجتمع إلى سياق السلامة الاجتماعية والاستقرار الاقتصادي والنموّ المستدام. ونحن إذ نذكر مثلا ،جيلالي اليابس، وبوخبزة، وبختي بن عودة، نذكر لزاما قيمة تلك التضحية العزيزة التي تدخُل في خدمة هذا الميدان الذي نتحدّث عنه الآن، والتي دفعت بأعداء هذا الوطن الذين يخشون عراء الحقيقة إلى قتلهم، وحرق صفحة هامة جدّا من تاريخ تطوُّره الذي صار اليوم وياللأسف يتم في شكله المادي فقط ،ويغيب عميقا في شكله المعرفي.
هذه عينة سوسيولوجية من المهازل الكبيرة التي يعيشها الوسط الذي من المفروض أن يُمثِّل نسبة عالية من المقروئية في المُجتمع. ولكننا نجد أنفسنا للأسف، في مواجهة متخلِّفة جدا مع خطاب البزنسة والمافيايا العلمية التي جعلت الكثير من المسؤولين عن الكتاب ينساقون نحو صفقات التجهيز متغافلين عن نوعية الكتاب من جهة، وعن مردودية القارئ من جهة ثانية، والذي يكون في معظم الأحيان، قارئ واجبات ،أكثر منه قارئا ملتزما بقضايا الساعة وتطورات العالم .
وأمّا دُور النّشر التي تعتبرُ مصدرا اقتصاديا يموِّنُ سوق الكتاب، ويخضع منطقيا إلى العرض والطلب وأخلاقيات تطوُّر المجتمع، فإننا نجدها تعيش نوعا من المناسبتية والظرفية التي تنزع عنها الرابط المنطقي لزاما، وتحكمها إلى تحايلات سوق الطّبع والنشر والاستيراد التي تسيطر عليها أيضا مافيا هذا النوع من الاقتصاد الذي يستمدُّ جذوره حتما من السياسة العرجاء للدولة :عدم التحكُّم في سعر ورق الطباعة. ضرائب الجمركة العالية، تحايل دور النشر في أسعار طباعة الكتب، غياب سياسة حكيمة للتوزيع، غياب ثقافة الإخراج والعراقة واحترام المادة، الخروج الطفيلي إلى السوق بهدف الاستحواذ على صفقات خيالية تدرُّ بها الدولة على مؤسسات طباعة – وليس دور نشر- تأسَّست خصيصا لأجل اغتنام فريسة برنامج الدولة الخاص بتنمية الكتاب .تهرُّب دور النشر من دفع مستحقات الكُتّاب. مكانة الكُتّاب التي تأتي دوما في الدرجة الدنيا لسيرورة حياة الكِتاب. فَـقْر جمعيات القراءة، خلو المكتبات العامّة من المراجع الحديثة والدوريات بشكل منتظم. الغياب شبه التام لأي نوع من الدوريات الثقافية: تَصَـوَّر أنه لا يوجد أي دورية أدبية في الجزائر تصدر بشكل منتظم ومتواصل رغم قِلّتِها، حتى تلك التابعة إلى وزارات الدولة،لأنها وبكل بساطة وزارات بلا أي تاريخ ثقافي يهتم بالمادة المتبناة حسب نشاطاتها المختلفة!! ..
وأمّا إذا ما أخذنا في الحديث عن الترجمة، فإننا سوف نفتح جرحا عميقا يعكس مباشرة قيمة الثقافة في هذا الوطن. فالإحصائيات تقول بأن التكوين الآكاديمي غير مؤطَّـر كلية من قبل المؤسسات المحترفة التي عليها عبء المتابعة والتكوين والتعاقد مع المترجمين الأكفاء، بحكم أن الترجمة هي المتنفَّس الأوحد الذي تطلُّ عبره الأمم على تجارب الأمم الأخرى، فيحدث بذلك الاحتكاك والتبادل والتثاقف الذي لا بُدَّ منه. الإحصائيات تقول بأن المؤسسة الاحترافية الوحيدة الموجودة الآن، وبعد مخاضٍ عسير له ما له من المحاسن وعليه ما عليه من المآخذ التي تعود إلى الجانب « السياسي » أكثر منها إلى الجانب الإبداعي والتنموي، هو المعهد العالي للترجمة،التابع إلى جامعة الدول العربية، والموجود بالعاصمة، والذي أثبت عجزه أمام رهانات السّاعة وما تتطلَّبُه من حراك وسرعة وشفافية وتوسُّع عبر فروع عديدة تغطّي أكبر قدر ممكن من مساحة الوطن. وأنتم تعلمون بأن كل هذا غائب حتى الساعة عنه.
- هل استطاعت الكتب أن تصنع قارئا جزائريا ؟
- أجد بأن السؤال لو ذهب نحو الاستطلاع عن نوعية القارئ هنا هو الأهمّ. مردودية القراءة، نوعية المادة المعروضة، سياسة الكتاب – كما أشرت إليه في الأعلى- ، درجة استهلاك المادة المُنتَجة، تغطية المنتَج وتسويقه، دعم الدولة لسعر الكتاب وتمكين الطبقات المحرومة منه (أي أكثر من 70 % من عامة الشعب) مثلما كان يجري في السبعينيات، هدف القراءة، مدّة المطالعة اليومية أو الأسبوعية، عدد القُرّاء الذين تجاوزوا مرحلة تعلُّم الكتابة واكتسبوا درجة لا بأس بها من العلم والمعرفة والذين بإمكانهم إفادة المجتمع، بدءًا من تكوين الأطفال داخل البيت، مرورا إلى التوعية على مستوى الشارع، ثم على المستوى الجماهيري، ثم على المستوى الإعلامي، ولكنهم يعزفون عن ذلك بسبب ارتفاع الفكر المادي في المجتمع، وغياب الفكر التثاقفي، ووهن الجانب الإنساني في مكتسباتهم العلمية أو التقنية عامة..كل هذا يشكل ما نسميه هنا « مشكلة »…ولنا أن نتساءل في ظل هذه المتواجدات العويصة التي تقرِّبُ المُجتمَع من التجاهل بدل المثاقفة، عن نسبة المقروئية ومكانة الكتاب في صناعة القرّاء في هذا الوطن، ولنا أن نجيبَ بشكل صريح جدا كي نواجه أنفسنا أمام التاريخ ونعرى بحقيقتنا أمامه. والحقيقة تقول، بأن أغلب الكتب الفقير التي تملأ رفوف مكتباتنا القليلة ،هي كتب لا تتلاءم مع متطلبات العصر، وأن أغلب القراء الذين يتداولونها، لا يغلب عليهم الجانب الطبيعي لثقافة المطالعة، ولا يلجأون إليها إلاَّ في شكل واجبات مدرسية أو مهنية أو إيديولوجية صمّاء.
علميا، الشاذ لا يقاس عليه. والذين صنعهم الكتاب ،بعيدا عن التمويهات الأخيرة التي لجأ إليها النظام القائم لتبرير خطاب الجهل الذي يحمله، يعدّون شواذا، وخطابهم لا مكانة له في الحراك الاجتماعي والتنموي الجزافي الذي يعيشه الوطن.
وأمّا عن آفاق المسألة الثقافية في الجزائر، فإن مصيرها حتما لن يختلف عن المصير المُدمََّر للقراءة، إذ لا يمكننا تصوُّر ثقافة بدون قراءة…لا يمكننا تصوُّر أي احتمال ولو طفيف لدرجة أمل فعلية لثقافة واقعية ومنطقية وواعية برهانات الساعة، في غياب القراءة. وعليه، فإننا هنا أيضا،أمام تطبيق جزافي وأهوائي للخطاب الثقافي، وبالإمكان إدراك مستوى تدنيه بشكل بسيط جدا، ولا يحتاج إلى درجة عالية من الفراسة، بل إلى درجة ابتدائية فقط من المقارنة بين الخطاب الثقافي الجزائري، وباقي الخطابات والتطبيقات الثقافية لذلك، في البلاد العربية – حتى لا نقول في البلاد الغربية ،إذ أنه يستحيل الحديث هنا عن أي مجال للمقارنة- .
س5) ما موقفكم من السياسة الثقافية المنتهجة في الجزائر، وما هي مقترحاتكم لحماية اجتماعية تشمل المثقف؟
ج5) لقد فهِمَتْ الدول الغربية، بأن الاستعمار الحالي، وبغضِّ النظر عن الجانب الاقتصادي للأهداف الكلاسيكية له؛ والذي هو حتمية لا مفرّ منها، هو الاستعمار في مفهومه الثقافي. ولقد قامت العولمة ذاتها ،على هذا الأساس. مما دفع بأغلب الأنظمة الغربية إلى أن تشتغل على تأكيد مكانتها الثقافية، وملء الفراغ الذي قد ينشأ داخل مجتمعاتها وتكون أسبابه ذات مصدر ثقافي. لأن هذا الأخير – أي المصدر الثقافي- في حدّ ذاته، هو ساحةٌ تتقاتل داخلها هويات تسعى العولمة التي شاركت أمريكا في مضمون صناعتها بشكل كبير إلى تغطيتها واحتكار شرعيتها وبتر مصدرها والتحكُّم بمصيرها …أي أن العولمة في مبدئها ومنتهاها، هي أشكلة للعالم وفق النمط الأمريكي، لا غير. وهذا ما أدى بالغرب إلى أن ينقسم إلى شطرين بارزين هما : شطر المحافظة أو العراقة (الذي يغلب عليه الطابع الكلاسيكي لوجه الحضارة الغربية ) وشطر العولمة (الذي يغلب عليه الطابع الأمريكي الحديث).
ولنا أن نتساءل بعد هذا عن هوية ومكانة الخطابات الثقافية الأخرى في العالم، مجبَرين على الإجابة عن هذا السؤالٍ الخطير والصريح والمؤلم الذي يضعُنا وجها لوجه أمام أنفسنا، وينكش الأوهام العتيدة التي تسلّحنا بها طويلا عبر مسار تاريخنا الثقافي معتقدين في ثمار الوهم الحضاري التي أجبرنا أغصان أشجارنا على أن تمتلئ بها وتثقُل، بدل إسقاطها وإعادة زرع الحقيقة والتسلُّح بالصبر والعمل من جديد. والحقيقة تقول، بأن العالم العربي، ورغم شساعة أرضه، وامتداد سمائه، وضخامة بنيته السوسيولوجية، وتعدُّد مؤسساته الثقافية، وغناه الفاحش، لمَّا يزل بعدُ يعيش مرحلة البحث عن هويته ثقافيا، وعن الفصل بين » التأصيل والتنصيل « ، والتجديد والإبقاء؛ تماما مثلما ساد في بداية القرن المنصرم ،عبر حركات الإصلاح الأولى التي بدرت في مصر، ثم امتدّت شعريا ومعرفيا إلى بلاد الشام بدءًا من النصف الثاني من نفس القرن، ودخلت من بعدها إلى المغرب العربي في الربع الثاني منه، كي تنتشر على باقي الأرض العربية بشكل أوسع في القرن الواحد والعشرين مع انتشار الإنترنيت ووسائل الاتصال الأخرى، لكنّه ظلّ دوما لصيقا بالهامش، كي يتأكّد عمق عمل المركز على تعطيل كل ما من شأنه القفز ببنية العقل العربي إلى الأمام ..أي إلى مواجهة حقيقة العالم وديناميته.
ربما لن نخرج عن ذلك التحليل التسعيني الذي أوضحه الجابري في نقده وتحليله للعقل السياسي العربي، والذي مفاده أنّ ثلاثية : القبيلة، والعقيدة، والغنيمة،هي المحدّدات اللاشعورية التي غذّت وتغذّي دينامو أي فعل مركزي عربي. ولذلك لا يمكننا الذهاب بعيدا في التبشير بمستقل ثقافي غني ومتنوع مادامت البنية التجديدية ذاتها محكومة إلى مسبقات ومصادر رجعية ومساند سوسيولوجية متخلّفة ،لا تحسن وضع حدود فاصلة ولا رجعية بين قديمها وحديثها.
العالم اليوم، لا يؤمن بحياة النصوص الضعيفة. الحضارة ذاتها تقوم على قوة المعرفة وسرعة التماهي والبداهة والتأقلم. ولا يمكننا إثبات أنفسنا إلاّ وفق تنشئة طبيعية لا تقوم على الإدغام أو الإدماج الفكري المعنّف في مجتمعاتنا. تنشئة تعترف بالآخر المغاير ولا تمنحه سلطة الهيمنة، من أجل تشكيل بنية سوسيولوجية مسالِمَة ومدركة لخطر التفكُّك، ومهيأة لمواجهة خطر الثقافة الأخرى العظيمة التي تجاوزت تلك المعوقات، وضمنت تحصينها، والتي تعدُّ العولمة مثالا حيا لها.
وأنت إذ تسألني اليوم عن موقفي من السياسة الثقافية المنتهجة في الجزائر، ستلقى منّي الإجابة نفسها التي مهّدتُ لها أعلاه، والتي تشير إلى استحالة الركون إلى الإجابات التبشرية المُضحكة – إذا أردنا مواجهة أنفسنا بصراحة- ،لأن الفعل الثقافي عندنا، هو فعل مركزي بامتياز محكوم حتما إلى تلك المعوقات الثلاث، فِعل لم يستطع أن يتخلص من هيمنة السلطات المتعاقبة التي لم تشترك ربما فيما بينها إلاّ في « مخيال الغنيمة »، ولم يمنح للمؤسسات المُستقلة ولا للجمعيات على تعدُُّدها والتي يكثر فيها الوازع التبشيري الديني أكثر من الوازع الثقافي الليبيرالي …لم يسمح لها بتأسيس أي شكل ثقافي تنموي مختلف، ولا بـتأسيس طليعة قوية تؤثر مباشرة على مستوى منابع القرار العليا، بدل تلك الطلائع التي يسيطر عليها نوع من » زعماء الأقليات الساحقة « – على حسب تعبير الروائي غرمول – والتي لا يمكنها أن تذهب بعيدا بأصواتها في مهبّ رياح الفوضى العارمة التي تعصف بهذا الوطن.
وتبقى الإجابة عن الجانب المتعلّق بالمقترحات التي من شأنها أن تُحسّن الحياة الاجتماعية لرجالات الثقافة، معلّقة. إذ لا يمكننا تصوُّر حياة رغدة لشريحة اجتماعية حسّاسة تحمل الهمّ الثقافي، وسط مجتمع يعاني أكثر من نصف سكانه من العوز، ولكننا في نفس الوقت ننوه إلى ضرورة منح العقل السليم فرصة محترمة للعمل في هدوء تام على وضع المخططات الفنية التي من شأنها أن تقرر مستقبل هذا المجتمع الذي عرف جيدا كيف يصنع أوهام التخريب، ولم يتربى إلاّ قليلا جدا على صناعة البناء. رغد العيش، يكون جماعيا أو لا يكون، وليس من حق أي مسؤول أن يبعث بأبناء شعبه إلى الجنة أو إلى النار ملفّعين بالجوع : ماديا كان أو معنويا !
· س6) ماذا عن مقاربتكم لمسألة الهوية في الجزائر التي لا تزال مثار جدل في الجزائر؟
ج6) هناك الكثير من المغالطات التاريخية التي ترتبط ببعض المفاهيم، والتي أرى شخصيا بأن مفهوم « الهوية » يعدُّ أحدها. فبحجّة طمس الاستعمار للهوية الوطنية الجزائرية، خلال مرحلة جبروته واستنزاف الخيرات، وتغيير العقليات لأجل تدنيسها وضمان تبعيتها، ظللنا نعاتب التاريخ لسنين عديدة بعد الاستقلال، ونرُدُّ أي ضعف في الشخصية الجزائرية إلى ذلك. لقد احترفنا لعدة عقود خطاب معاتبة التاريخ، والنتيجة واضحة اليوم : وطن بلا تاريخ فعلي.
وحتى التاريخ البسيط الذي بحوزتنا، لا يجد متنفّسا علميا نزيها، ولا تواصلا حقيقيا يضع الأحداث أمام عجلة البحث ويُلزم الجميع على احترام خصوصياتها. ووسائل الإعلام الحكومية هي الأخرى، شاركت عميقا في هذا التعتيم البليد الذي جعل سني الاستقلال كلها بمثابة جبل هائل من الممنوعات والمخزونات الدفينة التي ذهب ضحيتها كثير من الرجال النزهاء الذين صنعوا التاريخ، ووجدوا أنفسهم في الأخير أمام مقص الرقيب، وسكوت الرفيق وهجرة الأمن.
صارت المدرسة بتنشئتها العرجاء لأجيال (المستقبل) وعاء تعتيم ابتدائي، ينتج الجهلاء بامتياز، ويختصر حياة هذا المُجتمع على مرحلة صغيرة جدا من تاريخ الوطن، بتأكيدها على التأريخ والسّرد المتحزّب، ومحو الذاكرة التي تتقولب في كل مرّة مع نوع النظام القائم. ومن المدرسة، ننتقل إلى الجامعة التي يصلها فاقدي الذاكرة، من أجل البحث عمّا بإمكانه أن يملأ ذلك الفراغ – طبعا بالنسبة إلى الطلبة الذين عرفوا كيف يتخلّصوا من هيمنة الفراغ، وليس كل الطلبة!- وهنا، تحدث الفاجعة الكُبرى، التي تضع الطالب في مواجهة مباشرة مع ضعف التأطير والأدوات المنهجية المتخلُّفة، وغياب الدفق اليبداغوجي الحكيم الذي يدفع بالطالب إلى المضي قدما في تحرّيه وسؤاله عن حقيقة الأحداث التي أدت إلى نشأة المجتمع المتخلّف الذي يعيش فيه، وبخاصة إذا سعى في بحثه ذاك إلى تأسيس نوع من المقارنة النقدية الجادة مع المجتمعات الأخرى التي اشتركت معنا في الكثير من المقوّمات، والتي يُعدُّ ربما المقوّم الإنساني هو أيضا عنصر اشتراك يليق الأخذ به والاعتبار، ولكنّ مصيرها اليوم أفضل من مصيرنا.
ولذلك فإن الوعاء الآكاديمي، يُعدُّ أفضل وعاء بإمكاننا أن نصهر بداخله حيثيات البحث عن حقيقة هذا المجتمع. ولكنه وعاء محكوم – كما ذكرت أعلاه- إلى الضغوطات الذهنية المتخلّفة التي يسهر عليها الخطاب السياسي القائم ويسيّرُ مضامينَها، ويتحكّم في شرائطها، ويخطّطُ لبرنامجه « التبشيري » من خلالها، ممّا يجعل الهوّة قائمة حتما بين الواقع القائم وبين الحقيقة التي عليها أن تقوم!. وفي ظل هذا التخلُّف الذهني الفظيع، لا يمكننا الحديث إلاّ عن بعض المقوّمات الكلاسيكية للهوية الوطنية التي لا يمكنها مقارعة تقلُّبات المستقبل المخيف الذي ينتظر المجتمع، والتنبؤ بالأحداث أو بالإمكانيات المحتملة التي نتسلَّحُ ضدّ خطورتها كضمانات واجبة لأجل « حفظ العرق » وتفادي الانقراض.
وبمعنى آخر، فإن الهوية في حدّ ذاتها، ليست مفهوما جامدا محكوما لزاما إلى تصريفه في الزمن الماضي مثلما عهِدنا على فهمه وتربينا عليه، وإنما هي أيضا، مجموعة من الاحتمالات المختلفة التي تُهَيئُنا للمستقبل، والتي يكون جانبها الاجتماعي ربما أعلى جانب يجب توضيح خطوطه العريضة، وتحليل تلك الدقيقة فيه، كي نحصل في الأخير، وفي شكل دينامي متواصل ومفتوح، على هوية محلية متجدّدة، حتى وإن استمدّت جذورها من الماضي. ونحن إذ نتزمَّت تجاه تعريفنا « للهوية « ، فإنما نسعى، وبشكل متعسف جدا ،لا يعترف بحقوق الإنسان إطلاقا، إلى الحدّ من غنى المجتمع وتنوُّعه وتواصله وامتداده، سوسيولوجيا وثقافيا، ونقتل فينا ذلك الاختلاف المستحبّ الذي أنشأ أعظم الدول الحديثة اليوم، وجعلها تقود العالم رغم حداثة تاريخها.
علينا أن ننفتح أكثر على التغيير، وأن نشارك الرأي الآخر فينا ،والذي لم يجد مكانا له وسط سلطة القرار في البحث عن فهم بنيتنا الذهنية القائمة، ونقدها، وأن نتربى على التصرُّف بشكل سلمي وراق أمام مفاجآت التاريخ، كي نعتبر بها،ولا نكرّر أخطاءها بقدر الإمكان، لأن كتابة التاريخ وتأسيس الهوية، يعدّان فعلا بشريا خالصا، يحتمل الصواب كما الخطأ، والاجتهاد وحده من يفصل في ذلك. وأعتقد بأن هذه الحكمة الأخيرة، أثبتت نجاعتها ذات زمن، وأخرجت إلى العالم أُمَّة بحضارة عظيمة ذاع صيتها حتى أبعد الأصقاع لقرون عديدة.
س7) كلام كثير يحوم حول إشكالية إيصال ثقافتنا العربية إلى العالم الغربي وشروط التبادل معه، ناهيك عن مقومات التبادل الثقافي للدول العربية فيما بينها كآلية دفاعية عن الهوية الثقافية العربية، لذا،ما الكيفية لإيصال ثقافتنا نحن كعرب بتنوعها واختلافها إلى العالم الغربي؟
ج7) لم تتوقف عجلة الثقافة في أي مكان كان، وفي أي زمن عن التلاقح مع الثقافات الأخرى.وهذا هو الشيء العظيم الذي تمتلكه الثقافة في جوهرها. فالثقافة موجودة دوما في تواصل رغم كل المعوقات التي تواجهها. وطبيعة الثقافة في حدّ ذاتها تقوم أصلا على الاكتساب الذي يتأتى من التبادل، وعلى مواجهة كل الضغوطات التي تعيقها عن طبيعتها. لذلك أجد بأن الفكر المتشدّد أو الاستئصالي المنغلق، هو فكر زائل حتما، بسبب قيامه ضدّ الطبيعة في حدّ ذاتها. وبما أن هناك قاعدة حضارية تقول بأن المغلوبَ مولعٌ بتقليد الغالب، فإن النتاج الحضاري لن يشذَ حتما عن هذه القاعدة، ولكن هناك بالموازاة أيضا، قاعدة تقول بأن أعمار الأمم القائدة محدودة هي أيضا، وبأن مرحلة القيادة لا بُدَّ زائلةٌ، وبأن الأمم الضعيفة بإمكانها أن ترتقي وتصل إلى مناصب أعلى في مسؤولياتها أمام الإنسان والتاريخ، ونحن نشهد على ذلك اليوم من خلال نهضة دول شرق آسيا، وقُرب أفول نجم الحضارة الأمريكية. ونحن إذ نقول بقرب هذا الأفول، فإننا لا نعني البتة ذلك الموت المؤكّد للثقافة الأمريكية، ولكن موت هذه الأخيرة من الجانب المادي الذي تفرزه الثقافة لا غير، وانقضاء سيطرة البروتوتيب الاقتصادي الأمريكي على العالم، وبخاصة بعد ظهور معايير اقتصادية عديدة تؤكّد على ذلك، وتؤكد على تمكّن الاقتصاد الصيني من التغلغل في صلب الصناعة الأمريكية وتركيعها وإلزامها على تقبُّل شروط اقتصادية كانت حتى وقت قريب جدا غريبة عن المجتمع الإستهلاكي الأمريكي الذي لم يفكّر ولو لمرّة بأنه سيتعرّضُ لعاصفة تسونامي عنيفة، تخلخله في العمق، وتغّـيرُ في الكثير من سلوكياته وعاداته عبر حياته اليومية وطريقة عيشه ونوعية رؤيته إلى مجتمعات العالم الأخرى التي لطالما كان سلوكه تجاهها سلوكا متعاليا وجاهلا.
ولذلك فإن شرط الزوال الحضاري، غير تابع لشرط الزوال الثقافي، وإلاّ لاعتبارنا زوال الحضارة الإسلامية، يعني أيضا زوال ثقافة هذه الأخيرة، وهذا شيء مضحك وغير منطقي حقا ! فالثقافات بتلاقحها لا تموت، وإنما تنتقل عبر المجتمعات والشعوب، وتُشكّل نوعا من الارتقاء البشري الذي علينا أن نتربى جميعا من أجل بلوغه. لذلك فإنني أجد بأن أفضل تعريف للثقافة وبغض النظر عن الجانب الأنثروبولوجي العتيد الذي اجتهد في ذلك،هو التعريف الرائع الذي ذكره الموسيقار اللبناني : مارسيل خليفة ،إثر إحيائه لحفل في نيويورك مؤخرا ،قاد فيه جوقة عالمية شملت العديدَ من الجنسيات : » الثقافة بلا وطن، وهي تأخذ معناها من الحياة « ..أفضل تعريف، نبع من مجتمع مقموع ومتخلّف، هو المجتمع العربي، كي يجد له صدى وسط مجتمع متطوّر ومشهود له بذلك هو المجتمع الأمريكي. لكنّ الغريب في الأمر، هو أنّ هذا التعريف لم يصدر من مرسيل إلاّ بعد تعرُّضه لضغوطات كبيرة واستجوابات واستفسارات مختلفة من قبل مختَلف الأجهزة الأمنية الأمريكية، تتمحور حول برنامج الزيارة، ومكان الإقامة، ونوعية المُستَقبِل، وحتما سيتبع ذلك رصد فريق مراقبة لمناضل عربي معروف أنه يواجه ظلم آلة كبيرة إسمها النظام السياسي الخارجي الأمريكي، الذي يتعسَّفُ دوما مع كل ما هو عربي لأجل عيون اللوبي الصهيوني !. من هنا، باستطاعتنا، وبكل شرعية ،أن نفصل أيضا بين النظام السياسي وما يعكسه من نوعية خاصة بخطبه الداخلية وتلك الخارجية. والنظام السياسي هو في الغالب نظام مصلحاتي،لا يعترف إلاّ بالشرائط القمعية التي يضعها في شكل خطوط حمراء على المجتمع أن يتقيّد بها، ولا يخترقها، من أجل ضمان سؤدده واستمراره. والاستمرارية بالمفهوم السياسي بعيدة كل البعد عن الاستمرارية بالمفهوم الثقافي. فإذا كانت الاستمرارية في المنظور الثقافي تعني التلاقح والإنسانية والتبادل وتوسيع دائرة المعارف وسيادة الجنس البشري في كرامة وغنى وتنوُّع، فإنها في المنظور السياسي، تعني الثبات والهيمنة والتوسُّع على حساب الضعيف والاغتناء المادي والسّيطرة الإيديولوجية والتكتّل العرقي. ولذلك فإن الفصل بين كلا الخطابين من أجل قيام شرعية كل خطاب على حساب ذاته واكتساب استقلاليته في الجانب المعرفي، للمرور إلى الجانب الحضاري بالمفهوم الكوني، يُعدُّ ضرورة لا بُدّ منها من أجل فهم مكانة الثقافة لدى أي مجتمع. وكلما سيطر الخطاب السياسي على الخطاب الثقافي، كلما لاحت علامات تخلُّف هذا الأخير، وبانت مكانة رجالات الثقافة فيه. ولنا أن نتصوَّر الآن مكانة الخطاب الثقافي العربي في مواجهته للخطاب السياسي القائم !. لكن مصادفة تاريخية غريبة تنشأ من خلال هذا الفصل أيضا في العالم العربي، وهي أنّ نوعية السياسية عندنا، تختلف عن غيرها في السياسة الغربية، والتي ضربنا بالسياسة الأمريكية مثالا لها؛ فممثلي السياسة العربية يعكسون بوجه قبيح جدا الوجه الثقافي لمجتمعاتهم، ويعيشون نوعا من الانفصام الذي يتبدى بوضوح أمام الغريب الذي تسنى له الإطلاع على حيثيات الثقافة العربية، فتنشأ تلك النظرة الدونية لثقافتنا لدى الغربي، وتتأسس رغما عنّا تلك الأحاسيس الحزينة والمتحسّرة على نوعية ممثلينا الثقافيين، لأن الجانب السياسي واللاشرعي والإيديولوجي المتحجّر والمتخلّف، واللاشعور القبلي، واللاشعور الغنيماتي (نسبة إلى الغنيمة) هو السائد في الصورة الحضارية التي يعكسها هؤلاء الممثلون.
ولأن السياسي العربي أيضا، لم يخرج،لا من خلال خطابه، ولا من خلال العينة السوسيولوجية الإيديولوجية الممثلة له، عن طبقة التمثيل القبلي، على اعتبار أن الثقافة عبَرَت ثلاث مسارات تاريخية مهمّة هي : الثقافة القبلية،الثقافة المجتمعية (أو تمثيل المجتمع المحلي)،ثم الثقافة الكونية (أي تمثيل المجتمع الكوني)…لأن السياسة العربية لم تخرج عن التمثيل القبلي المذكور، ولم تسمح للتمثيل الحرّ بأن يأخذ فرصته للتعبير عن ذاته وعن الذات الكونية وأن يرتقي في المطالبة بحقوقه وبناء خطابه الثقافي الأنسي المُستقلّ، فإننا لا نستطيع وياللأسف المرور إلى ضفة العالمية والمشاركة بشكل كبير في صناعة الطابلوه العالمي، إلا من خلال المشاركة الفردية أو النخبوية التي تتعرّضُ إلى الكثير من الضغوطات المحلية والشرائط الخارجية التي تستغل دوما مثل هذه الحالات الاجتماعية التي يكون ممثلوها عادة ضحايا للعوز والاحتياج.
عربيا ،لا يوجد هناك فرق كبير بين كل دولة وأُخرى ،لأن الفعل المؤسساتي هو دوما فعل سياسي وحزبي تابع ورَقَابي، ولأن الثقافة بين تلك الدول تشترك في العديد من النقاط التي تجعل الاختلاف في الهوية العربية هينا…وحتما الاختلاف في الآلام سيكون أيضا هينا!. وأعتقد شخصيا بأن « ثقافة الآلام » ،لا يمكنها أن تنتقل بالسرعة التي قد يتصوَّرها شوفينيي الثقافات المحلية إلى العالم الآخر الذي قطع أشواطا ضوئية في التخلُّص منها رغم حيل التاريخ…وربما إلى الأبد .
· س8) الإيصال الثقافي فيه من المعيارية ما فيه، وفيه أيضا الصورة المحيطية التي تتميز بها -الثقافة العربية-، خلافا للثقافة الغربية، فبما تفسرون هذه المحيطية، إن كانت صحية أو كانت مؤشرا سلبيا على مستقبل الثقافة العربية؟
ج8) فكرة محيطية الثقافة، ليست غريبة على أية ثقافة، ولا تعدُّ ميزة خاصة بالثقافة العربية وحدها. أضف إلى أن نسبة المحيطية تختلف من مجتمع إلى آخر، مما يجعل معايير انعكاسالصور الثقافية هي الأّخرى تختلف باختلاف المجتمعات. لم يعد من المجدي اليوم، ونحن نعيش في ظل هيمنة العولمة بامتياز على جميع الثقافات بدرجات مختلفة الحديث عن مرجعية الثقافة، فقد فُصل في الأمر منذ ستينيات القرن المنصرم حين اقتنع العالم بأنه صار قرية صغيرة، وبأن الكلّ هو مجموعة من الأجزاء التي شاركت في تكوينه كبنية مكتملة، وصار الحديث يتمحور اليوم حول نوعية المحيطية (أفضّل مفهوم المحلية) التي يطرحها كل جزء في تلك البنية الكونية، بدل الحديث عن الكمّ المطروح.
ولأن الأمر انتقل من التمثيل الكمّي (كما لا يزال سائدا في الدول المتخلّفة)،إلى التمثيل الكيفي الذي وحده بإمكانه أن يشفع لشرعية التمثيل الاجتماعي اليوم، فإننا كعرب، علينا أن نتساءل عن نوعية الثقافة التي نطرحها أمام العالم، وعن مردودية ذلك الطرح، محليا أولا، ثمّ عالميا. ولأن المتنفّس الوحيد لاستمرار الثقافات ونموّها هو الحرية، ولأننا نعلم جيدا بأن ذلك الشرط الاستمراري شبه منعدم في العالم العربي، وبخاصة إذا كانت التغطية والتموين مصدران حكوميان،- وهما حتما كذلك!-، فإن التأثير العربي على الثقافات الأخرى، سيكون لزاما تأثيرا محدودا، ومرتبطا بنسبة كبيرة إلى ذلك الشرط الخانق.
العولمة أيضا، طرحت عدّة احتمالات لأجل ضمان الهيمنة وإخراج تلك الطّاقات المجدّدة عن أوساطها المختـنقة. احتمالات ذكية جدًّا عملت عليها مخابر متطوّرة، ونجحت في ذلك إلى أبعد الحدود، فكانت نتيجتها كسر الهيمنة المركزية المحلية، والقبول بهيمنتها الكونية (نوع من المركزية الكونية)التي تقودها لزاما تلك الاحتمالات المذكورة عند بداية الفقرة. صرنا نعيش خبوّا نسبيا للمحيطية، وصار العالم المتخلّفُ يشهدُ العديد من الهويّات المتضاربة التي تتصارع فيما بينها لأجل إثبات ذاتها. صار العالم المتخلّفُ عرضة للهزات التغيّيرية التي فرضت نفسها بعد أن كان يعارض في الماضي القريب فقط كل شكل من أشكال التغيير. صار المجتمع الذي كان يعيش القمع مفتوحا على التغيير الحتمي. وفي ظل هذا الانفتاح العنيف، نشأت العديد من الهويات المتصارعة التي صارت تعكس أنواعا عديدة من الهويات الكونية في نفس المجتمع، ونشأ نوع جديد من الانفصام الثقافي .
كانت كل الحركات الفكرية العربية منذ بداية القرن المنصرم حتى اليوم، تفشل في الدفع إلى الأمام بعربة النموّ الفعلي في مجتمعاتها، وتجابَه بشيخوخة الخطاب السياسي، وظُلم الهيمنة الاجتماعية التي تعكس ثقافة الحَجْر والوِصاية، وكانت دوما تحذّر من انتقام الطبيعة البشرية من ذلك الظلم غير الطبيعي .ولأن ذلك الدّفع فشل في الأخير، وفشلت كل محاولات تحديث البنية الذهنية والنظام الذهني العربي، فقد جاءت سياسة الاستعمار الغربي الجديدة غير المباشرة، وفرضت نفسها على تلك المجتمعات المنغلقة، وعزفت لها على وتر لاطبيعية القهر المتأتي من الضغوطات، وعرفت كيف تستغل ارتفاع نسبة الجهل فيها، فدخلت دون قتال يوصف، واستوطنت حيث شاءت، وزرعت بذار الحرية في أرض المقموعين التابعين، فبانت الطبيعة البشرية التي لم تتجهّز لمثل هكذا تغييرات، وانساقت نحو امتطاء الهوية الكونية ثانوية الدرجة أو (الميتا- هوية) التي لم نشارك في صنعها البتة، بقدر ما شاركنا بنسب عالية في استهلاكها. وهذا حال أغلب الدول العربية، وبخاصة تلك التي استفادت من ريع المحروقات.
في ظل هذا الانفصام الذي تعيشه الثقافة العربية، وصِغَر حجم مساحة طابلوه الثقافة العربية الذي بإمكاننا أن نطرحه كشراكة فعلية على الثقافة الكونية (لا داعي للتذكير بأن دولة غربية واحدة قد يفوق إنتاجها الفني في مجالٍ مَا كل نتاج الدول العربية مجتمعة، وأن البحث العلمي في هذا الميدان يفوقنا بسنوات ضوئية، وأننا لا زلنا نسمع تصريحات قبتاريخية حتى الساعة عن تحريم السينما والمسرح من قبل فقهاء العوَر التاريخي !)…لنا أ ن نتساءل، وأن نحلّل نوعية المحلية أو المحيطية التي نطرحها اليوم ، ونوعية الطارح والمطروح . كلنا يعلم بـأن العالم العربي يشارك بشكل كبير في صناعة العنف واستهلاك الجاهز من \وبفضل الثقافة الغربية، وكلنا يعلم مدى ارتفاع درجة الصراع بين القطب التجديدي والقطب المحافِظ (الذي لا يعي حتى هوية المُحافَظ عليه)، وما خلّفه هذا الصراع من تقهقر ورِدّة وعودة مخيفة للأصولي واستمرارية مفتوحة على رفض القوى المجدّدة النابعة من محيطه، وانفتاحه غير المشروط على العولمة في جانبها التقني –وبخاصة في الأوساط التي تدّعي المحافظة-…وكلنا يعلم حتما مدى تعسّف الآخر العارِض\الفارض لثقافته الجارفة، ونوعية رؤيته الدونية لنا بعد تأكُّده من ضعف الأجهزة التمثيلية لنا، وضمانه للجولة التالية للعبة الحضارة والتاريخ ، وذلك إلى زمن لا زال بعدُ بعيدا.
لا مكان للحديث عن المحيطية اليوم، فهذا متجاوَز اليوم ومفصول فيه .ولأن الفصل تمّ في الضفة الأُخرى، ولم نعرف كيف نفهم حيثياته حتى الساعة، ولأن الوقت قد مضى للإجابة عن ذلك، فإنني أرى بأن ثقافة الظروف هي التي صارت تحكم الثقافة العربية اليوم ،أكثر من أية ثقافة أُخرى، وما علينا إلا أن نتمنى ظروفا أحسن من هذه الظروف التي نعيشها اليوم ..أي أننا لن نبلغ درجة المعقولية أبدا في التنبّؤ بمستقبل الثقافة العربية الفقير، وأننا سنكون دوما عرضة لحيَل التاريخ الذي لم نشارك في صناعته بشكله الكوني ،المشاركَة التي تعكس قيمة موروثنا الثقافي فعلا …وأخشى أن أقول بأننا سنظل كذلك إلى قرون عديدة قادمة تقول كل المؤشرات الاستدلالية المستقبلية بأننا فيها سنغدو من الأقليات الآيلة إلى الانقراض!.والعلامات اليوم تدلُّ على ذلك بشكل لا يدعو إلى الشك،إلاّ لمن أراد أن يواصل لعبة العمى التاريخي.
س8) الكلمة العربية التي أصبحت مرتبطة بالحركات المتطرفة، هذا ما دفعها إلى دفع ثمن فادح جراء ذلك، كيف تتصورون الآلية الوقائية؟ وما تأثير الانسداد السياسي الذي يحاصر الوطن العربي حاليا على المنظومة الإبداعية؟
ج8) أولا، فكرة « الإرهاب »، فكرة إسلامية غائرة في تراثنا : وأعدّوا لهم ما استطعتم….إلخ . وتوظيفها تاريخيا،اختلف دوما حسب مكانة المسلمين. ففكرة الترهيب، في مرحلة الفتوحات، وبداية بناء الخلافات الإسلامية، وتأسيس القوّة العسكرية التي وجدت سندا معرفيا متطوّرا جدا بالموازاة من ذلك، هي غيرها في مرحلة الإمبراطورية العثمانية التي كان يغلب عليها الطابع العسكري، ويغيب عنها السند المعرفي ،لأنها إمبراطورية قامت على أنقاض حضارة إسلامية منهارة، وضعف في البلاد العربية التي شكلت العصب العسكري في الجيش التركي، وهي غيرها أيضا في مرحلة الاستعمار أو الانتداب التي مسّت العديد من الدول العربية التي لم يكن لها لا سندا عسكريا، ولا مثيلا له معرفيا. بعدها، تأسست الدول العربية المستقلة، والتي لم تعرف ذلك إلاّ حديثا (أغلبها في النصف الثاني من القرن المنصرم)، فكانت فكرة الإرهاب تحتل فعلا مكانة جدّ خاصة، بعد غياب القوّة العربية لعقود طويلة، وتغـيُّر نوع الاستعمار، من استعمار مباشر وكمّي، إلى استعمار غير مباشر ونوعي وذو مردودية أعلى(نوع من الاستعمار الذكي !). فصار الإرهاب بمثابة الحنين أو النوستالجيا التي تستوطن لاوعي كتلة اجتماعية معينة، تحلم عميقا باسترداد أمجاد الخلافات الإسلامية القديمة اعتمادا على القوة الغائبة أصلا، وتتناسى الخلفية التاريخية التي أدت إلى نشأة تلك القوة في مرحلة ما من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية ،وهي الخلفية الذهنية حتما!
كان طابع « الإرهاب » إذاً، في تلك الخلافات الإسلامية الأولى، ذو دافع توسُّعي \معرفي\حضاري\ مجدّد، رغم تلطُّخه الحتمي بالكثير من الدماء – وهذا حتمية تاريخية لقيام كل أغلب الحضارات- ووقوفه في أحيان عدّة بمثابة المخوِّف أو الرّادع، وليس لزاما بمثابة الغازي ،لأن الإسلام احترم كثيرا الديانات المختلفة عنه، والتي كانت تحت سيطرته، ممّا أكسبه مكانة أرقى من مكانة العديد من الإمبراطوريات التي عَرَفت عبر انتشارها الكثير من العنصرية والمجازر في التاريخ القديم كالإمبراطورية الرومانية التي يشترك معها التاريخ العربي في الكثير من النقاط. وهو ذو طابع عسكري تخويفي في العهد العثماني ونازع نحو الغزو والاستحواذ على الثروات، والاستئثار بالحكم، والاستقلال عن الرقابة المركزية للأَسِتانة، وبسط نوع معين من العنصرية التي جعلت السيطرة على الحكم دوما خاصّة تركية على حساب الجنس المحلي في الدول العربية الواقعة تحت حكمه، وارتكاب العديد من المجازر كتلك التي مورست في حق الأرمن وبعض الدول الواقعة في قلب أوروبا والتي اكتسبت مخيالها عن العنف في حضارتنا الإسلامية حتى اليوم من تلك الممارسات. والإرهاب في مرحلة استعمار البلاد العربية،الذي جاء على يد الحركات التحريرية هو بمثابة الدفاع عن الهوية المُستَلَبَة واسترداد الأرض والحق المهضوم. وأما في عهد بناء الدول العربية الحالية بعد استقلالها، ودخولها في مرحلة الربع الأخير من القرن المنصرم في مرحلة جديدة من المواجهة إثر تنامي الصراع العربي الإسرائيلي، وهيمنة الأنظمة الإمبريالية على قرارات الأمم المتحدة، واندلاع الحرب الأولى في أفغانستان ضدّ الروس، ثم فيما بعد ذلك ضد أمريكا(الحرب الثانية)، وسقوط قطب التوازن الروسي عن كفة ميزان العالم، وعودة الحركات المسلّحة من تلك الأراضي البعيدة، لتشكّل حركاتٍ مسلّحة لأجل قلبِ أنظمة الحكم في بلدانها على اعتبار أنها أنظمة » غير إسلامية » ، فهو إرهاب جديد، شاركت الدول الغربية في حدّ ذاتها في إذكائه، وتنميته عند بدايته وعمِلَت به لضرب الاستقرار في البلاد العربية وآوت دعاتَه، ثمّ سرعان ما انقلب السّحر على الساحر، وضلّ الولدُ عن مسار أبيه، وتعنّتت مصالح الدول الغربية بعد أن أدركت خطورة الإرهاب الذي تربى عند أجهزة مخابراتها وفي أقبية عواصمها لأجل ضرب القوة الروسية في عهد الحرب الباردة في البداية، والخوف من تكوين قطب عربي يخلف القطب الروسي نظرا لما يحمله من مؤهلات مادية، تسمح له بالتسلُّح وتهريب آخر تكنولوجيا الحرب بما فيها التكنولوجيا النووية التي تحتكم عليها بعض الدول الإسلامية وتهديد أمن إسرائيل(مسمار جحا الذي تم زرعه في قلب الأمة العربية) والمصالح الغربية فيما بعد.
لذلك فإن مفهوم » الإرهاب » الذي اختزلت معناه أمريكا بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، ووقفت أمامه عاجزة بعض الدول الأوروبية التي آوت أشرس الإرهابيين، لم يأخذ معناه الحالي إلاّ كصناعة مفهوماتية أمريكية بحتة، غيّبت المعنى الصحيح له، واختزلته في الحرب على جنس بشري معيّن هو الجنس العربي بشكل خاص، والإسلامي بشكل عام، وأنشئ لأجل ذلك قاموس خاص في شكل لائحة أسماء تحتوي على منظمات تحارب المصالح الأمريكية التي استفحلت في البلاد العربية بشكل مباشر وغير مباشر، وألحقت به فيما بعد حتى حركات المقاومة العربية التي تناضل من أجل استرداد أراضيها من المحتل الإسرائيلي – أي من الممثل الشرعي والوحيد لأمريكا في المنطقة- وجمع ذلك كله ضمن لائحة أُطلِقَ عليها اسم: محور الشرّ.
وعليه، فإن للإرهاب معانّ عدة ،اختلفت حسب استعماله في التاريخ، من استعمال الإرهاب لأجل التخويف والاحتياط وضمان إبعاد الخطر،إلى استعماله لأجل الغزو والفتك والتوسُّع،إلى استعماله لأجل تحرير الأرض واستعادة الحقوق، إلى استعماله دوغمائيا لأجل بسط نوع من النوستالجيا والهوس العقائدي الذي تأتى من التهميش وغلبة المركز والاستئثار بالثروات واحتكار الحكم..إلخ. وبالرغم من كل هذه المقاربات المفهوماتية حول مفهوم « الإرهاب »، يبقى العالم أسيرا لأخطاء شائعة تمّ بذرها من قبل ثقافة العولمة لأجل إبعاده عن المصدر الصحيح للإرهاب، وبالتالي عن المعنى الصحيح له، والذي يُعدُّ اليوم ربما أفضل حجّة اختارتها الحضارة الغربية –والأمريكية خاصة- لأجل ضمان هيمنتها على العالم، والإبقاء المتين على مصالحها الاقتصادية، واحتكار الحياة الكريمة لمواطنيها على حساب الجنس البشري الآخر. وأعتقد بأنه آن الأوان اليوم لوقوف الدول العربية موحّدة من اجل تدارس مكانة هذا المفهوم في مجتمعاتها، والبحث عن سبل جديدة لخلق معنى له غير ذلك الذي سنّته الدول الغربية العنصرية لأجل قمع الجنس العربي ومحاولة التخلُّص منه بطريقة أمريكية بحتة، تتطلب منّا جميعا الإسهام في بلورة أبعادها وتحذير الأجيال القادمة من الوقوع في شباك معانيها المنحرفة، وسنّ قانون يوازي قانون الباتريوت الأمريكي، يشمل البلاد العربية، ويكون بمثابة قانون باتريوت عربي، ولمَ لا؟ ولكن على الحكام العرب غير الشرعيين أن يعترفوا بقرارات هذا القانون أولا ،والذي يجرّمُ السياسة الأمريكية في المنطقة، وينتقد القوانين القمعية في الداخل العربي وتواطئها مع الغطرسة الغربية، واعترافها بانتهاجها لسياسة العنصرية داخل مجتمعاتها، وتحمُّلها مسؤولياتها كاملة في اختلال موازين التنمية على العديد من الأصعدة، وكذلك بجعل أمريكا تغتنم كل هذه الفرص لكي تبثّ اللاأمن واللااستقرار في الدول العربية…وأعتقد بأن هذا الشرط الأخير، يبدو بعيدا نوعا ما على أن يتحقق…ولكن عبارة أبو القاسم الشابّي تظل قائمة دوما أمام إرادة الشعوب .
· س9) كيف تقاربون القضايا ذات الصلة بالقومية الثقافية العربية، وهل ترون في معالجة وزراء الثقافة العرب للتراث الثقافي العربي، كيفية ناجعة للمحافظة عليه من التهويد والزوال من تأثير العولمة.
ج9) بعد تفكيك أغلب المعتقدات الذهنية الشمولية عن الذات العربية، وسقوط حلم توحيد الصفّ العربي في 1967،والمناداة العارمة التي دعا من خلالها الفكر التجديدي إلى إعادة تقييم القيم في قاموس الأخلاقيات السياسية العربية، ودخول الصراع العربي الإسرائيلي في نقطة مواجهة الذات العربية الشعبية مع قيمة الممثل السياسي لها –أي مع سلطات بلدانها القائمة-ورضوخ مصر، بعد معاهدة كمب دايفيد التي فصلتها عن مكانتها العالية كممثل للحلم العربي ومهّدت لسياسة التطبيع مع إسرائيل لحساب المصالح المشتركة بينهما فقط، ثم المعاهدات المباشرة لمنظّمة التحرير الفلسطينية، والقبول بالكثير من النقاط التعجيزية التي طرحتها محادثات أوسلو وأشار إلى خطورتها إدوارد سعيد، والقبول شبه الشامل في الأخير للدول العربية بسياسة التطبيع مع إسرائيل، بمشعل مصري، وانقسام البلاد العربية الفاضح إلى قسمين : قسم الشعب، وقسم السلطة، وبعد حرب تموز التي دمرت فيها إسرائيل قسما كبيرا من البنية التحتية اللبنانية، وخسرت فيها حربها ضدّ حزب الله، وبعد انضمام الشارع العربي لحلم تبديد الترسانة الإسرائيلية التي لا تُهزم، ثم اندلاع حرب ديسمبر على غزّة وإفشال خطة تدمير المقاومة الفلسطينية، ممّا طرح سؤالا مهمّا جدا أمام الإنسان العربي حول قيمة القوة الفعلية العسكرية الاسرائيلية، وقيمة المقاومة التي أحبطت للمرة الثانية عسكريا رغبة إسرائيل في السيطرة على المنطقة في أقل من ثلاث سنوات…. بعد كل هذه الأحداث التي طلّقت الشارع العربي رسميا من حكامه، ودوّنت عمق توحُد الحلم العربي الذي لم ير النور أبدا بسبب لا شرعية الأنظمة التي تمثّلُ ذاتها ومصالحها فقط، ولا تمتُّ بصلة إلى الشعب إلاّ من ناحية الرّقابة والعقاب، باستطاعتنا أن نستخلص نوعية القومية العربية المطروحة اليوم أمام الإنسان العربي، وان نعرف قيمة الأقطاب اللاشرعية التي تمثِّلُها وقيمة الأقطاب الشرعية المُبعَدَة التي من المفروض أن تتولى مهمّة التمثيل. من هنا ينشأ الشرخ الكبير الذي تطرحه الأنظمة العربية القائمة، في محادثاتها مع الجهات المتعسّفة في حق القضايا العربية، كالجهة الأمريكية والإسرائيلية أو البريطانية (الأم الشرعية للنظام الصهيوني) أو الفرنسية مؤخّرا، ويتأكّدُ طلاق الشارع العربي مع ضعف ممثليه الذين أثبتوا جبنا تاريخيا لا يوصف في مواجهة التصريحات الهجومية والمغالطات الفاضحة التي تستعملها تلك الإدارات الغربية علنا وأمام وسائل الاتصال والمنابر الدولية، كهيئة الأمم المتّحدة التي لم تنصف أية قضية عربية منذ نشأتها، والتي تصرُّ رغم ذلك الدول العربية على الاحتكام إليها من أجل الفصل في قضايا مصيرية هامة تخصُّها، كالقضية الفلسطينية التي أنشئت خصيصا من اجل بث اللاإستقرار بين البلدان العربية وإبعاد كل حلم توحُّد عربي .
فبدون حلّ للمشكلة الفلسطينية ،لا يمكن الحديث عن أية قومية عربية فعّالة إلا عبر توحُّد الشارع العربي – وهذا شيء نوستالجي ومؤقّت لا يمكن له أن يدوم،لأن الأمر يتجاوز فعل التظاهر إلى فعل العمل المؤسسّاتي- وبدون تغيير مواقع القوى الفعالة في حل المشاكل العالقة بالقضية الفلسطينية، وإبعاد مصر مبارك،وتغيير مقر الجامعة العربية وتداول سلطة رئاستها، وتمكينها من استقلالية القرار وفرض إلزاميته، وتأسيس تبادل اقتصادي حرّ بين الدول العربية يقوم على أساس توازن اقتصادي متعقّل بين الدول العربية الفقيرة التي تعتبر أراضيها الفلاحية غنية جدّا ولكنها تفتقر إلى المال، وتلك الغنية، التي تعتبر أراضيها شبه قاحلة وقاحلة وتفتقر إلى اليد المؤهّلة والأرض الفلاحية المعطاء، لأجل إحداث تنمية مستدامة على جميع الأصعدة بدءا بالصعيد الزراعي ،أي الغذائي، وهو أهمّ صعيد تتحكم فيه الدول الغربية، وتذلّ به استقلالية الشعوب.
قضية حماية الثقافة القومية العربية من التهويد إذن، قضية غير مؤسسة شرعيا إلاّ عبر الحلم الذي يريد حماية حالمهِ، والحلم لا يمكن له أن يؤسس لأية حقيقة إلاّ عبر العمل الدءوب المتعقّل، ومواجهة حقيقة الواقع المرّ الذي يعيشه العالم العربي من تخلُّف شبه شامل ..أي النهوض من سبات الغفلة المُستحبَّة التي تستمرئها السلطات العربية المُستغلّة لخيرات بلدانها والمتعسّفة في حقّ شعوبها دون تمييز. ونحن لا نستطيع تأسيس بنية من الضعف ،إذ أن ملاط المنطق يغيب في هكذا تأسيس، ولذلك بنتفي حلم التوحُّد، وتبدو فكرة » القومية » فكرة بلهاء، يتلاعب بها ساسة القبائل العرب في غرفهم كلما جمعتهم قممٌ كوميدية، والتأموا حول طاولة حكايا المغامرات العاطفية، وأخبار آخر أنواع الخمور، وضربوا بقضايا شعوبهم التعبانة عرض الحيطان.
ينبغي إيقاف بلاهة الحلم قليلا. لا مكان للإستطالة فيه، فالأجيال العربية أصبحت تدرك خيبتها جليا، وهي مستعدّة للموت في أية لحظة، أكثر من استعدادها للحياة.
· س10) هل يمكن إثارة الوعي القومي عند المجتمعات العربية عبر فكرة العواصم الثقافية، أم أنّ الأمر لا يزال أسير الترف الثقافي؟
ج10) ما دمنا لم نحرر الفعل الإبداعي من قبضة المؤسسة الرقيبة،لا يمكننا أن نذهب بعيدا في ميدان الإبداع. ورغم براءة بعض الأنشطة الثقافية العربية التي تقع تحت لواء حكومي ،إلا أن الخلفية الرقابية تظلُّ قائمة، وحتى الأنشطة الكمية التي تحسب لها، فهي دوما أنشطة ذات مرجعية تبريرية إيديولوجية (تبرير الحكم القائم)،وأنشطة تسيرها المحسوبية والمعارف أكثر من كونها أنشطة خاضعة إلى الغربلة \ الانتقاء العلمي الذي يأخذ في الحسبان معايير تنموية مختلفة على عدّة أصعدة، بمشاركة مؤسسات وجمعيات خاصة ذات طابع ثقافي تطوُّري وليبيرالي، وتعمل من أجل مواصلة إنتاج الإبداع، بدل التظاهر المؤقّت .
عبر فكرة العواصم الثقافية، بإمكاننا أن نقف على الوجه البائس المُشتَرك للثقافة العربية، فنلمس مدى عظمة تلك التظاهرات وحجمها في حيزها الزمني القائم، ومدى عظمة الفراغ بعد انقضاء ذلك الزمن . بعد انقضاء زمن التظاهر تنفتح هوّة الفراغ في المكان المحتفي، يختفي الجمهور الكمّي، تجفُّ صفقات الإنتاج الثقافي التي شوّهت طبيعة مافيا الثقافة وجعلت منهم أشباه بشر لقليل من الزمن، تُـنتزع الأغطية الوافرة والدافئة عن جسد وزاراتنا الثقافية، ويعود الإنسان العربي الذي لا يقرأ ولا يتابع المسرح ويفكّرُ كثيرا في قوته اليومي وينساق نحو فتوى تحريم السينما عن متابعته للمسرح وقراءته للجريدة وتفرُّجه على أفلام السينما المحرمة.
هذا لا يعني بأن التظاهرات هذه، دليل تخلّف أو أنه يجب نكران فضلها في إنتاج المادة الثقافية، ولكنّ القيمة الفعلية التي يجب أن تكون للثقافة في الوطن العربي،لا يجب أن تنحسر دوما في الجانب المناسباتي، وأن تعكس وفقا لذلك ظرفية الفعل الإبداعي، بل عليها أن تكون سيرورةً حضارية من البناء، وتكوينا مستمرّا لذهنيات الإبداع في المجتمع، وتأسيسا لصناعة ثقافية راقية تدفع بالأداة الفنية وبالفنان إلى مكانة محترمة ،وتضمن له العيش الكريم ،وتؤكد له على أحقيته بالعيش هو أيضا بعد أن أعلنت أغلب المؤشرات عن المكانة المزرية التي يعيشها الفنان في الوطن العربي،والتي تقوده في الغالب إلى الصّمت أو الاعتزال أو الانضمام غير المشروط لتعسُّف الخطاب المركزي من أجل ضمان لقمة العيش، في أوج مرحلة العطاء.
· س11) هناك رأي قائل بأن الثقافة العربية منكفئة على ذاتها، وأنها فوتت فرصة الوصول إلى تحقيق مكانة مهمة على الصعيد العالمي، برأيكم هل الفرصة المتاحة حاليا لاستدراك الموقع الريادي ترتبط بتحقيق القوة أوّلا على كل الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية؟
ج11) هذا سؤال ينكأ من صلب إشكالية الثقافة العربية في حدّ ذاتها. فهناك دوما قطبي صراع كلاسيكيين، توليا مهمّة الإشراف على حال تسيير الأمور الثقافية، ولم يفلحا إلاّ نادرا: وهما قطبي الاستئصال الذين يلغيان بعضهما بعض في تطرُفهما اليساري واليميني. وهناك بالموازاة قطب ثالث توافقي، قد يقال عنه بأنه قطب ازدواجي، ولكنه لم يجد نصيبه هو الآخر إلاّ نادرا في الثقافة العربية في الحالات التي وجد فيها الدعم السياسي. وقطب رابع لم تواته الفرصة أبدا للتعبير عن ذاته وإقامة خطاب مميّز وتجديدي وواسع بأنَسيته واحتكاكه مع القوّة العلمية الفعّاَلة والمفجّرة للطاقات.
هذه الأقطاب الأربعة هي التي تشكّلُ عموما وجه الثقافة العربية على اختلافها. والإجابات المحتملة التي تطرح نفسها أمام هذه الإشكالية ،لن تخرج لزاما عن هذه ألأقطاب، ولن تأخذ معناها إلا منها. وبما أن أزمة الوعي التي يعيشها العالم العربي منذ زمن بعيد، لم تترك إلاّ للقطبين المتناحرين إمكانية للعيش بمبدأ الإلغاء، فإن القطب الثالث التوافقي، يعدُّ قطبا « حكيما » في أخذه من كلا القطبين، وصديقا متبادَلا بين أحضانهما : أي أنه قطب يعيش على مبدأ البغاء الفكري ،أكثر من عيشه على مبدأ التخطيط الموضوعي والإلغاء الحكيم للشوائب التي تعفّن مستوى الثقافة الراقية، ولا تسمح لها بالبزوغ،مثلما هو الحال مع استراتيجية عمل القطب الرابع.
ففكرة الانكفاء على الذات إذن، فكرة لا تنطبق على حال أقطاب الثقافة العربية الأربعة، وإنما على القطب المحافظ الرّجعي، وغير التجديدي والاستئصالي لكل ما هو حداثي ،وكذا على القطب التوافقي،وتغيب عن القطب الاستئصالي التجديدي الذي لا يؤمن بزمن السلف،رغم عظمة الثقافة العربية الإسلامية التي أثبتت نجاعتها في مرحلة ما من التاريخ الثقافي البشري، وطرحت لزاما بدائل تجديدية من أجل تجاوزها وتطويرها ..أي من أجل قتلها بالمفهوم التفكيكي ،وبعث الحياة المتجدّدة بتجدّد المجتمع.
ربما، أراني اقرب إلى القطب الرابع التجديدي الذي يحتكم إلى عامل دراسة الزمن، و حقيقة الطرح الموضوعي معتمدا على نوع من المهارة المحلية (Le Savoir faire) ،وعلى الدعم السياسي والاقتصادي الرشيد ،عبر مختبرات أكاديمية متطوّرة، وتنشئة أجيال متعقّلة ورزينة تجاه موروثها الثقافي، تعمل على تهيئة أرضية « تنمية مستدامة » على المستوى الثقافي بعد أن تم حصر هذا المفهوم الهام جدّا في المجال التكنولوجي فقط، وعلى نشر الوعي، وبسط المعرفة وتسهيل وصولها إلى الطبقات المحرومة، وغربلة الإطارات التكوينية وتطوير ذهنياتها عن طريق لجان بيداغوجية متمكّنة، وذات سلطة مستقلّة، يكون من شأنها وضع برنامج اجتماعي تربوي استشرافي، يهيئ المجتمع المتخلّف الذي يجابه عجلة التطوُّر بلا شعور جاهل لاستقبال مستجدات الحياة المستقبلية بكل عقل وبصيرة، واللحاق بالركب الحضاري .
الأمور تتجاوز حتما هذا الطّرح البسيط الذي قدّمته الآن، ولكنّ التنمية التي تأخذ في الحسبان تطوير ذهنيات المجتمع العربي هي أهمّ باب يمكن من خلاله الانطلاق نحو مستقبل واع، وليس باستطاعتنا أن نبدأ بهذه التنمية إلاّ عبر تعديل البرامج التربوية بدءًا من التعليم الابتدائي ووصولا إلى التعليم الأكاديمي،ولن يتأتى هذا بدوره إلاّ بفضل قرارات سياسية صارمة ،تقطع عهدها كلية مع كل المداهنات الجاهلة التي تتدخّلُ في مصير المجتمعات العربية، والتي تربطها إلى الخيال أكثر منها إلى الواقع الكوني.
هناك مشاريع مدنية وفكرية عدّة طرحتها بعض الجهات الأكاديمية والإطارات الحرّة المغضوب عليها وياللأسف، والتي يمكن العودة إليها والاحتكام إلى رؤاها العاقلة جدّا من اجل تأسيس مخابر مستقبليات عربية، ولكنها جهات لا تمتلك الحصانة الأمنية اللازمة من أجل الدخول في هكذا مشاريع. وإن تسنى لها ذلك، فهي ستجابَه حتما برفض تنبؤاتها ونتائجها وخلاصاتها من قِبل المجتمع الجاهل أولا، ثم الحُكم الأجهل ثانيا. ولذلك فإنني أقترح مشروع تأسيس مدينة أو قرية فكرية عربية(على غرار قرى الإعلام الآلي التي ترأسها مؤسسة بيل غايت) مختصّة بالدراسات المستقبلية والتخطيط لنهضة هذه الأمة، وتتمتّع بالاستقلالية والحصانة اللازمة والأمن الذي لا بُدّ منه والتموين المادي. ومنه، باستطاعتنا أن ننطلق في وضع مشروع مجتمع عربي متطوّر، يطرح مجموعة من الشروط التي تمهّدُ لفكرة إتحاد عربي متين،ولا يمكن لأي دولة أن تنتمي إليه إلاّ وفق تلك الشروط الصارمة ،مثلما حدث مع الدول الأوروبية المشتركة ،التي يعود مشروع توحيدها إلى أكثر من 50 سنة ،والتي لم تتمكّن من ذلك إلاّ منذ عهد قريب.
الغرب لا يريد لنا إتحادا كهذا، ويعمل بكل ما أوتي من قوّة ونفوذ على استغلال جهل حكّامنا والقوى الاقتصادية المخربة، وهو إلى حدّ الساعة نجح إلى حدٍّ بعيد في المحافظة على هكذا انقسام وتشرذم وضعف، ونجح إلى حدّ أبعد في الاغتناء من خيرات بلداننا، ولذلك فإن الإسراع بمداواة سرطان الوضع العربي الراهن، يُعدُّ ضرورة لا بُدّ منها، وإلا فإن مصير الانقراض سيكون حتمية تاريخية لا يمكن لها أن تخيّبَ رميتها فينا.
· س12) أي ثمن تدفعه الكلمة العربية، الأسباب، الحركات المتطرفة، أو الأنظمة المستبدة؟
ج12) في ظل تفشي سرطان الحضارة في الجسد العربي، كلنا ندفع الثمن، وحتى أولائك الذين عبروا إلى الضفة الأخرى ضنّا منهم أنهم نفذوا بجلدتهم من المرض. الأمر أصبح يتوارث جينيا.والألم العربي أوسع من كل محيطات الدنيا.أصبحنا محترفي ألم بامتياز:اقتصادنا يتألم، حالتنا الاجتماعية تتألّم، إرهابيونا يتألمون، فنانونا يتألمون، طلابنا يتألمون، أطفالنا في مدارسهم يتألمون، الآباء والأمهات يتألمون، حتى حيواناتنا تتألم،وهي قد ربّت غريزتها على نوع عربي خاص من الألم الطبيعي…. نحن عالمُ ألمٍ كبير، بحاجة إلى مرهم العقل.
· س13) ما موقفك من القضايا المحيطة بالثقافة العربية، طالما إنّ الثقافة العربية مرتبطة باللغة فلا ثقافة دون لغة، كيف السبيل إلى أن نرقي لغتنا لأنها مفتاح ترقية ثقافتنا؟
ج13) ما قد يبدو غريبا اليوم في مشكلة اللغة، هو أنّها صارت تستمدُّ معناها من قاموس آخر،غير القاموس الكلاسيكي الذي دأبنا على تعريفاته للُّغة، والذي كان يربط الأمية إلى مشكلة اللغة مباشرةّ دون سواها من المشاكل الثقافو- سوسيولوجية. اليوم، توسَّع مفهوم الأمية، وأصبح يمتدُّ إلى جهلنا بالفضاء الشبكي والآلات الرابطة إلى هذا الفضاء؛ لأن لغة العالم، أصبحت لغة الإعلام الآلي لا غير. وأمّا مضمون هذه اللغة فيُطرح هنا كمشكلة من الدرجة الثانية (Meta problème). وإنني أتساءل الآن، عن المكانة المتبقية لـ »مشكلة اللغة » حين يتم طرحها بشكلها الكلاسيكي حتى الآن في بعض البلدان العربية : هل ستحتلُّ هذه المشكلة في المرتبة الثالثة أم الرابعة أم الخامسة..إلخ من السُلَّم الرجعي المقيت الذي لم نعرف كيف نفصل في مكانته، ولا كيف نخرج عن تهاويمه ؟ كم من الزمن يلزمنا كي نظلّ نجيب عن هذه الأسئلة البالية التي هي من الدرجة الثالثة والرابعة فما أدنى، والتي أخّرتنا كثيرا عن الإجابة عن أسئلة الاولويات الحارقة، كي نتماهى ولو لمرّة مع عجلة التطوُّر البشري، لا ماديا فقط، فقد أثبتنا نجاعة لا بأس بها في ذلك وإنما ثقافيا وروحيا وعلميا ؟
هل من المجدي تكرار دروس البلَه الذهني التي تقول بأن: » من تعلّم لغة قومٍ أمن شرهم » ،وأنّ « اللغة العربية، هي من مقومات الهوية الوطنية »،وأن « اللغة العربية تُنعي حظّها » وأن لغة السكان الأصليين (الأمازيغية)، مثلما يحدث عندنا في بلدان المغرب (العربي)،هي أيضا من مقوّمات الهوية الوطنية !،وأن اللغة الفرنسية هي لغة الاستعمار،وأنه ينبغي التوجُّه نحو اللغة الإنجليزية كلغة ثانية أثبتت نجاعتها تكنولوجيا وليس لغة المُستعمر الفرنسي، وبأن « من يحنُّ إلى تلك اللغة فكأنما يحنُّ إلى الاستعمار من جديد « ،مثلما عبّر عن ذلك بنزق مضحك الراحل مالك حدّاد، وأن اللغة الفرنسية هي أيضا « غنيمة حرب » مثلما عبّر بشوفينية فرنكوفونية نادرة كاتب ياسين، وأن « اللغة العربية مثلها مثل اللغات المنقرضة التابعة إلى الشعوب القديمة مصيرها الزوال »، مثلما عبّر أيضا كاتب ياسين ؟..هل ينبغي إثارة نعرة الحروب الباردة الركيكة من جديد،والتي تكتّلُ قطبي الصراع الفرنكوفوني والعربوفوني أو الفنكوفيلي والعربوفيلي، كي يتناحرا حول ملعب طاحونات الهواء وخواء المعنى مثلما حدث خلال عشريات طويلة من الصراع على هذه الشاكلة بين قطبين من البلداء في الجزائر المستقلّة التي أوحت الصراعات الثقافية فيها بمستوى المثقف (المميّز)، وبقيمة الزمن في حضرة ذلك التمايز !؟…إلخ، من دروس البله الذهني التي دارت حولها معارك وهمٍ طاحنة كانت نتيجتها ضياع أجيال كاملة تعيش اليوم بدون أي زاد لغوي، وتغيب عنها أدنى مقوّمات التخاطب المتحضّر، ولا تنبئ عن أي تكوين، أو أنها بالكاد تستطيع أن توصل فكرتها، وتتخاطب فيما بينها بلغة الصمّ والبكم .والأمر ليس منحصرا في طبقات الشعب المتوسّطة أو الفقيرة التي لم تنل حضّها من التكوين ربما، وترتفع فيها درجة الأمية التي تمثّل أكثر من نصف السكان!- بل إنّ الطبقة الفقيرة والمتوسّطة ربما، هي الحارس الأمين على هذا التراث، بسبب تكوينها الطويل وأملها في اعتلاء مناصب في الدولة أو في الخروج من\عن أوطانها التي لم توفّر لها إلا الفقر والعوز بكل ما أوتيت من أدوات تمكنها من ذلك. ولأن الطبقة الغنية في العالم العربي، تفتقر إلى الثقافة البورجوازية التي تؤلّه التعليم، ويُعتبر أغلبُ أعضائها من أغنياء الحرب –أي من مقتنصي الأوضاع المزرية التي يعيشها المجتمع، وغياب الأمن والرقابة، والمنافِس الموضوعي، ونوم الدولة حين يتعلّق الأمر بحماية مستحقّات الأجراء الذين يشتغلون لدى الخواص – أو أنهم من محبّي الحاكم (Les funs du pouvoir en question) الذين يتفانون ويتفنّنون في إبداع مقاولات التحايل(Les entreprise imaginaires) والسّرقة التي تجد بنوك أموال الشعب مرحبة بها أمام أي مشروع من ذلك القبيل، والذين نعُدُّ منهم الوزراء وأبنائهم وأحفادهم، البرلمانيين ومن جاورهم ،المدراء الذين يهوون لعبة تحويل القطاع العام إلى خاصّ، ويفعلون ما بوسعهم من أجل تركيع المؤسسة وإفلاسها، وشرائها في الأخير بالثمن الذي يحدّدونه، ثم أغنياء الحرب أيضا، الذين حوّلوا قطرة عرق بسيطة نزلت من جبينهم أثناء عودتهم إلى بيوتهم في مرحلة الاستعمار ،إلى محيط من مياه التضحية والتفاني، ولم يستريحوا حتى سلبوا خيرات هذا الوطن، وأسّسوا لطبقية فاضحة في المجتمع، بحجة الشرعية الثورية.
تشكِّلُ هذه الطبقة الغنية إذن، نافذة كبيرة للإطلالة على نوعية الأمية في الجزائر كعينة، وفي العالم العربي، لأن الأمور تتقارب فيما بينها نوعا ما. وهي عينة لا تحمل البتة همّا لغويا ولا معرفيا، ولا تسعى إلى إعانة المؤسسات والجمعيات التربوية على القضاء على الأمية في مجتمعاتها، ورفع مستوى التعليم من خلال مؤسسات تربوية خاصة، يكون همّها الأكبر هو التكوين أكثر منه تحقيق الأرباح المادية، مثلما تشهدُ عليه تجربة » المغرب الأقصى « المحمودة .
هل نقول بأننا نشهدُ ردّة في مستوى اللغة في الجزائر مثلا؟ كل الدلائل تؤكّدُ على ذلك ؟
هل نواصل لعبة الكذب على أنفسنا، ونقول بأن سياسة « الجزأرة » كانت حكيمة وأنها أرست أسس بناء وطن حديث بعقلية جزائرية خالصة، متمكنة من مجابهة سؤال الساعة بكل ثقة؟ طبعا لم ننجح البتة بهذه السياسة، ومستوى التعليم تدنّى، والأذن الموسيقية التي تتحسّسُ خطأ اللغة نخرت طبلتُها، والأستاذ المُربي أصبح بلا عتاد يسوق به أجيال المستقبل، والدكتور الجامعي لم يعد مسؤولا أمام لغة مخاطبته للطلبة بقدر ما أصبح يؤكّد على لغة أخطائه ويبرهن على مستوى قاموسه الفقير، ومسؤولي الدولة صاروا يتلعثمون أمام تكوينهم الهيّن، ويتعنتون في التأكيد على الأخطاء الشائعة المقرفة، موحين دوما بأنّ لغة ثانية جاهزة دوما أمام ساحة العمل الفعلية، وكأنما ليقولوا للعالم دوما بأن اللغة العربية ،هي لغة كلام فقط ،ولا يمكنها أن تؤسس لأية عمل ميداني واقعي.وهذا هو حال المؤسسة الجزائرية فعلا ،فهي تشتغل بلغة ثانية تقترب من النسبة المؤوية مكتملة.
هذه المهازل اللغوية إذن ،هي نتيجة الشوفينية التمويهية التي اتّبعناها تجاه عامل بريء جدا هو عامل اللغة.
الانفتاح على اللغات،لا يعدُّ أبدا عامل تقهقر وسيطرة، بل عامل إغناء للغة الأمّ: لك أن تلاحظ الفرق الكبير بين ثقافة متعدّدي اللغات، وأولائك الذين يحبسون أنفسهم في لغة فقيرة واحدة وعالم خاص وخيال شبه قاحل. حتى عامل الإبداع لدى كلا الفريقين يختلف،لأن كلّ لغة تطرح –نوعا ما- مخيالا خاصا بالمجتمع الذي نشأت فيه، وبالتالي تصوُّرا مقاربتيا،وحلولا أوسع ،وأنسية أكبر.
سياسة التكوين الخاص ودعم الدولة للطبقات المحرومة من أجل الاستفادة من التعليم، تسهيل عميلة التحاق العمّال بالتعليم من اجل رفع قيمة مستواهم العلمي،هي من الأوليات الاجتماعية التي على الدولة أن تحارب لأجلها إذا لزم الأمر (والأمر يتطلّب فعلا أن تحارب الدولة لأجله !). إجبارية تزويد مؤسسات الدولة الإدارية والتربوية بالإعلام الآلي (برنامج كمبيوتر لكل عامل ولكل طفل مثلا، مثلما نتحدّث عن برنامج كتاب لكل طفل-علما بانه ،حتى الكتاب المدرسي لم يعد في متناول الأطفال في الجزائر، فهو باهظ الثمن، وتُقتَطَعُ قيمته المالية من قوت العائلة! -) ،وكذا بالشبكة العنكبوتية، وتوزيعها مجانا على المواطنين كحق في اكتساب المعلومة وفي الاتصال مع مستجدات العالم، وتطوير دائرة الوعي الجماهيري،وبالتالي العمل على القضاء شيئا فشيئا على نسبة الأمية بمفهومها الحديث،والتماهي مع لغة العالم الجديدة .
الحلول كثيرة ومتنوّعة لأجل القضاء على مشكل تقهقر مستوى اللغة، والسماح لمقوّم متين من مقومات الهوية العربية ؛الذي يعدُّ أداة فقط وليس هدفا ، بتأسيس ثقافة عربية بمتخيّل متطوِّر تمتدُّ لتغطية أكبر مجال ممكن من مجالات الحياة، ولكن المشكلة الفعلية لا تكمن في الحلول بقدر ما تكمن في رغبة المسؤولين العرب في رؤية مجتمعات عربية متطوّرة. وأعتقد شخصيا بأن هذه الرغبة غائبة عن أغلب المسؤولين العرب لأن الثقافة تعني الوعي، ولأن الوعي يعني النقد، ولأن النقد يعني حقوق، ولأن الحقوق تعني زوال هيمنة المركز وتكافؤ الفرص. وحكامنا العرب بلغوا –ولحسن حظهم- درجة من الوعي، خولت لهم فهم هذه القاعدة الشَّرطية، ولذلك فهم يعملون على تأجيل رحيلهم بكل ما أوتوا من قوّة، بما في ذلك قوّة التجهيل، وهم من المؤمنين الأشدّاء بأنه لا بُدّ من أن يوجد دوما من عليه أن يعرف كيف يسوق الحمار، ومن يتغاضى عن التعليم لأجل ذلك. وطبعا، فإنّ من يسوق الحمار ،لا بُدّ وأن يكون من عامة الشّعب ،وليس من أبنائهم أو من أبناء أغنياء الحروب !
· س14) سياسة الثقافة الفرنسية الجديدة فيما يخص ترقية اللغة العربية لأبناء المهاجرين العرب من بين مشاريع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، كيف تراها: هل ستحمي اللغة العربية وترقيها بعقل غربي؟
ج14 ) هذه السياسة التي تتحدّثُ عنها صديقي كامل، لا تدخل ضمن برنامج إشهاري خاص بساركوزي، لأنني لا أومن البتة بغيرة هذا الأخير على اللغة العربية، ولا على أبناء المهاجرين، وليس من حقي أبدا أن أُطالبه بهذا ،لأنني أعرف مواقف الرّجل العنصرية تجاه كل ما هو عربي، وأعرف أهداف ومرامي الفرنكوفونية العالمية. حبذا لو كان لدينا ولو جزء هّين من غيرة الفرنسي على لغته، ومن غيرة ساكوزي على وطنه، ودفاعه المستميت على المبادئ التي انتُخب لأجلها !..
أنا لست على إطلاع بمجريات هذا البرنامج ،ولكنني أتنبأ بأنه يدخل ضمن غسيل المخ العربي الذي ترأسه أمريكا، من أجل إبعاد أجيال المهاجرين الجدد عن حركات التطرُّف، وأخذ كل جوانب الحيطة والحذر بعين الاعتبار لتفادي وقوع مواجهات اجتماعية مثل تلك التي شهدتها الشوارع الفرنسية في عهد ساركوزي والتي أدت إلى الإضرار بالاقتصاد الفرنسي وتهديد الأمن القومي والتي كان المهاجرون العرب فيها يشكلون فتيلا سريع الالتهاب، والتي تعود أسبابها المباشرة إلى ثقافة التهميش العلني التي انتهجتها فرنسا تجاه المهاجرين، والتصفية العنيفة للوضعيات غير القانونية التي يتواجد فيها الكثير من المهاجرين غير الشرعيين في فرنسا، وأوروبا عامة، دون أخذ كل حالة على حِدا.
هذه السياسة، هي برنامج أمريكي كما قلت أعلاه، لتربية الجيل الجديد من أبناء المهاجرين الذين اكتسبوا الشرعية القانونية للإقامة، ولكنهم لم يتمتعوا بكل حقوقهم المدنية، وقد قطعت أمريكا شوطا كبيرا في هذا الميدان، نظرا لخبرتها الطويلة في تدجين الذهنيات المعارضة، وتجنيبها المسؤوليات الحساسة في البلاد،بدءًا من برامج المدارس الخاصة التي بدأتها في بداية القرن العشرين، وأنشأتها خصيصا لأبناء الهنود الحمر التابعين إلى القبائل المعارضة المتشدّدة، كي يتأقلموا مع سياسة الإدماج وينْأوا بأفكارهم عن موروث آبائهم المتزمّت والصارم تجاه سياسة البِيض. ثم امتدّ هذا البرنامج كي يشمل تغطية الأزمات الاجتماعية الخطيرة التي عايشتها الولايات المتحدة الأمريكية ،والتي كان منطلقها الجزء الجنوبي، والتي تعود إلى مشاكل اللّون التي دفع فيها الرجل الأسود غاليا بعد أكثر من قرنين من التهميش والاستعباد، حتى كُلّل نجاح حركات السود بمقتل مارتن لوثر كينغ، وميلاد حركة مالكوم إيكس،وبعض الحركات المتطرفة مثل حركة الأيادي السود المنادية بالبلاك باور،والتي شكّلت نوعا من التوازن مع كفة ميزان العنصرية الذي يعتليه الرجل الأبيض. ثم شملت هذه السياسة فيما بعد، تربية وتغيير ذهنيات المهاجرين اللاتينو ،الذين أصبحوا يشكلون هم أيضا غيتوهات تأوي المهاجرين السريين، وتضرب الاقتصاد الأمريكي في العمق بسبب المتاجرة بالمخدرات والدعارة والأسلحة، وتشكيل منضمات مافيا ،على غرار المافيا الروسية الخطيرة التي انتقلت بأموالها الفادحة إلى هناك بعد سقوط المخيم الشرقي.
ووسط هذا المدّ الكبير من الهزّات الاجتماعية الذي عايشته الجالية العربية في الولايات المتحدة الأمريكية ،ولم تشارك فيه البتة، لا سياسيا ولا ثقافيا (وهذا الأمر يختلف كثيرا عمّا يحدث في أمريكا الجنوبية) بسبب التهميش المركّز عليها والضغوطات التي مارسها اللوبي الصهيوني داخل مراكز القرار الأمريكية ، لم تجد هذه الجالية وسيلة للتعبير عن ضيم الخطاب العنصري القائم هناك إلاّ الاحتماء، بعد هجمات الحادي من سبتمبر ببعض الجمعيات الدينية الإسلامية المتطرّفة، ومجابهة عنصرية اللوبي الصهيوني التي يمثُّلها بشدّة الحزب الجمهوري المسؤول عن تخريب الوضع في العالم العربي.
وكان ميلاد قانون البتريوت الذي سنه التيار الجمهوري، فاتحة لعنصرية علنية تجاه كلّ ما هو عربي، وداعما بشراسة لكل ما هو صهيوني. وكان نارا غربية امتدّت لتشمل العالم كله في حربه ضدّ الإنسان العربي الذي يجب اتهامه مسبّقا بأنه إرهابي حتى يثبت العكس !… وكان من أنجع وسائل الدفاع والهجوم التي انتهجتها أمريكا، إتباع نفس السياسة التربوية التي اتبعتها مع أجناس المهاجرين التي ذكرتُها أعلاه، والعمل على غسل أمخاخ أبنائها الذين صاروا مواطنين أمريكيين، بمخيال عربي، ولو بنسبة بسيطة، حتى يتسنى لهم محو ذلك المخيال كلية، وخلق بروتوتيب أمريكي خالص، وكأنما لتعادَ تربيتهم من جديد بعد أن أثبتت ثقافة العائلة العربية (فشلها) في الإدماج الكامل لأبنائها مع الثقافة الأمريكية !.
وإذا صدق هذا المشروع الساركوزي الذي تحدّثتم عنه، فهو حتما يدخل ضمن هذا البرنامج التوعيوي ضدّ تنامي الإرهاب في العالم، وحماية أبناء الجالية من ذلك ببرنامج أمريكي شامل، تتناقله الدول الأوروبية بالحرف، وتشتغل عليه بسياسة (النسخ- لصق) ،وقد أثبتت تلك الدول تواطؤها مع كل ما هو أمريكي ،وتسلّحت لأجل ذلك بالسجون السرية التي يتم فيها ترحيل المشتبه بهم إلى أراضيها، والمحاكم العنصرية التي لم تقل كلمة حقٍّ واحدة في المجازر التي ارتكبتها الصهيونية في حقّ الشعب الفلسطيني، والبنوك الداعمة دون شروط لذلك الكيان المُجرم.
إن القاعدة الأساسية التي تتَّبعها الأنظمة الغربية دائما لأجل استمرارها ونموّ مصالحها تقول: بأن « لا صديق للغرب، ووحدها المصالح تهمّ ». ولا أعتقد بأن أي برنامج تربوي أو سياسي تقدّمُه الحضارة الغربية للعالم العربي سيخرج عن هذا السياق، وساركوزي لن يكون طفرة مميزة تحيد عن هذه القاعدة، فهو من الأنصار الأشداء الذين يسعون إلى التشبُّث بكل ما هو أمريكي في العالم ،لأجل ضمان سيادة إسرائيل على الشرق الأوسط (أي قلب الأمة العربية)، واستمرار التشتُّت العربي، واستنزاف خيرات المنطقة التي يعتاش منها الغرب بنسبة كبيرة، ومشاركة الأبناء الأصليين لتلك المنطقة في هذا الدمارعن طريق تكوين أنظمة ذهنية معدّلة وفق أجندة أمريكية عالمية شاملة.