أمة الفتاوى
حينما يسكن التخلف البنى الذهنية والنفسية لأمة ما، تتعطل قدراتها على التفكير والتغيير إلا فيما يعنى بتكريس نسق التخلف ذاته· وعليه تتوقف الأمة عن النمو العقلي وتصاب بانفصام في شخصيتها بين مضمون ذاكرتها العتيقة وواقعها المباشر·
إن ذلك النسق ينتح معاييره وقيمه وآلياته ورموزه، ولا يمكن التخلص منه إلا بإجراء جراحة دقيقة على عقل وقلب الأمة معا· إنها الثورة الحقيقية والوحيدة التي ستعتقنا من عبودية التخلف واللاعقل والتدين المرضي والاستبداد السياسي والعقد النفسية المتراكمة·
إن فقه الواقع ووعي التاريخ والقلق من المستقبل مدركات غير كافية، حيث يمكنها تعقيد الأزمات، ولذلك يجب أن تصحب برؤية واضحة لكيفيات الثورة والتغيير وبناء نسق (أو أنساق) جديد (ة) يرتكز عليه المجتمع الجديد· كما أن الفشل في هندسة ما بعد التغيير -حتى وإن كان ذلك على المستوى النظري فقط- يقود بالضرورة إلى البحث في مخازن الذاكرة عن »نموذج ما » يعاد بناؤه وإنتاجه أو التحجج به على أنه الصورة المثلى لما يجب أن يكون عليه·وفي ذلك خطر حقيقي على الذاكرة والوعي والمستقبل معا· فالنموذج حتى وإن كان صالحا في عصره وقابلا للتصدير والتعميم نسبيا في زمانه إلا أنه ليس بإمكانه موضوعيا اختراق التاريخ والأزمنة والعقول والثقافات حتى داخل البنية الواحدة والجغرافيا المشتركة·
تلكم واحدة من أزماننا في الثقافة الإسلامية الحديثة والمعاصرة: عدم القدرة على بناء »أنموذج » والبحث عنه في الشرق والغرب (عند الآخر) أو في الذات العربية الإسلامية لكن ليس كتراث وتراكمات بل كماضوية ممسوخة·
ومن أخطر تلك المظاهر فوضى »الاجتهاد » بضحالة الفكر والمعرفة بالعلوم والإنسان والمجتمعات وحمّى »الإفتاء » الإسهالي تحت الطلب في كل شيء بغير علم أو تدقيق أو توخٍ للعواقب ومن كل من هبّ ودبّ·
لقد انتقل الإفتاء من أهل التشريع إلى سوقى الشارع ومن جهابدة الفقه والرأي والإبداع إلى رعاع العامة والقفة والبدعة·
لقد أصبح ديننا رهينة هؤلاء وأصبحت شريعتنا مساحة للدجل والهراء وإفساد الخلق والطبائع، حيث أصبحنا ننتج من »المفتين » و »الفقهاء » سنويا ما لم ينتجه التاريخ الإسلامي كله وما لا ينتجه الغرب مجتمعا من علماء وباحثين ومخترعين· إنهم في كل مكان، في البيوت والمدارس والمساجد والزوايا والصحف والمجلات والقنوات الإذاعية والتلفزيونية ودور النشر والمؤسسات والإدارات والأسواق والأحزاب والجمعيات ودور الحضانة والعجزة··· إنهم يحاصروننا »بسلاح الفتاوى » كما تحاصر إسرائيل فلسطين ولبنان بأسلحة الدمار برا وجوا وبحرا·· لك في كل حركة وسكون فتوى·· لك في يقظتك ونومك فتاوى·· في فعلك ورد فعلك أيضا وكذلك في بكائك وفرحك···الخ·
بإمكانك أن تختار (ومن خلال ذلك تصنف اجتماعيا) بين الفتاوى الرسمية السلطانية أو الفتاوى الشعبية الموازية·· بين المتطرفة والمعتدلة·· بين فتوى الموالاة أو المعارضة أو بينهما·
كما بمقدورك أن تعتمد فتاوى الشباب أو الشيوخ وكلهم »مشايخ » أو تختار لنفسك بين الفتوى المحلية أو المستوردة سواء من بلاد الإسلام أو من الغرب·· فللغرب إسلامه ومسلموه ومفتوه أيضا!
لقد طورنا »سوقا » حقيقية للإفتاء تتم فيها المبادلات أو المتاجرة حسب العرض والطلب، تفوق في حجمها وخصائصها روح القرآن والسنة ومقاصد الشريعة· ألم نصبح »رهائن » الإفتاء في ثنائية »الحلال والحرام » فكرا وروحا وسلوكا وحتى أحلاما!؟ للذكر فإن كلمتي حلال وحرام وما تحملانه من دلالات وتقنين وتشريع لم تتعد ثلاثا وثلاثين إلى تسع وثلاثين مرة في القرآن الكريم ولم تضف إليها السنة المطهرة والاجتهاد الأصيل إلا قليلا قياسا أو تحريرا للمصالح·
و »الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور متشابهات »
إن الفتوى كما نراها في زمننا هذا سواء في مضمونها أو ممن تصدر عنه معطِّلة للإسلام مثبطة لإرادة وروح وعقل المسلم بل وتبرر له ما هو عليه من جهل وتخلف وتبعية، وعلاوة على ذلك، أصبحت مصدر فتنة وحرب أهلية·
ما أحوجنا اليوم لمن يشحذ عقيدتنا ويوقظ عقلنا ويجلد خمولنا وينفض عنا غبار الانحطاط· إن حياة الأمة وإقلاعها ليست بالفتاوى·· إن حياتها وقوتها السياسية والعلمية والاقتصادية والعسكرية في ثورتها على الاستبداد الذي يسجن حريتها ويكبل طموحاتها وفي تحررها من سلطة الرقيب على الروح وإمرة التدين المناهض في حقيقته للدين الحق·· دين الخلافة في الأرض بالتفكر والتنوير والإبداع والعدل والإنسانية·· والمقاومة!!
فضيل بومالة